وذكر بعد ذلك صيحتها التي تمثل فيها الألم وحب الانتقام الوحشي وهي تقول بالفرنسية: لن أنسى، لن أنسى إلى الأبد! نعم، إلى الأبد! وزادت مخاوفه زيادة هائلة ولم تهدأ في النهاية إلا حين نظر إلى أصبعه فرأى الخاتم الذي وضعته فيه دليلا على تجدد عهد حبها. نعم! لا ريب أن الماضي قد مات ودفن، حتى إذا هدده الخطر فهي ستحميه بلا شك، وستكون درعا فولاذيا يقيه شر الحوادث. هذا ما ظنه وصمم على أن يسألها عنه عندما تحضر في اليوم التالي، ولا ريب أنها ستكون أكثر صراحة، وستفتح قلبها له ولا تخفي عنه شيئا، ولكن على الرغم من كل هذا احتاط لتلك الليلة حتى لا يؤخذ على غرة.
أرسل دارنلي خادمه وطلب منه أن يغلق جميع الأبواب بإحكام، فصدع الخادم لأمر سيده وأقفل جميع الأبواب ما عدا الباب الذي كان يؤدي إلى الحديقة؛ إذ لم يكن هناك ما يغلق به، علاوة على أن مفتاحه كان مفقودا، ولكنه لم يخبر سيده بذلك لئلا يزيد في غضبه وحدته الظاهرة على وجهه.
وطلب دارنلي أن يحضروا إليه الكتاب المقدس ليقرأ فيه استعدادا للنوم، وجلس الخادم على مقعد في ركن الغرفة وقد غلبه النعاس، وهكذا أخذت الساعات تمر، وفي النهاية نام الملك نوما خفيفا، ولكنه ما لبث أن قام من نومه فزعا حوالي الساعة الثانية صباحا، وجلس في فراشه وقد امتلأ رعبا دون أن يعرف لرعبه سببا، وأخذ يصغي بأذنين مرهفتين وقد كاد قلبه يكف عن الحركة.
وأخيرا تمكن من أن يفطن إلى الصوت الذي أيقظه، وكان ذلك الصوت يشبه الصوت الذي سمعه من قبل حين كانت زوجته الملكة ماري معه، وظن أن هناك شخصا يتحرك، ولكنه ما لبث أن كف عن الحركة حين بدأ هو يصغي، وعاد السكون الشامل إلى القصر، ولكنه لم يعد إلى قلب الملك المسكين، بل ازدادت مخاوفه.
وأطفأ الملك النور، ونزل من فراشه، وسار إلى النافذة وأطل منها على الفضاء والظلام الدامس الذي لم يكن ينيره غير ضوء ضئيل منبعث من جزء صغير من القمر، وكان لا يزال في الربع الأول، وخيل إليه أن شبحا يتحرك في الظلام، فأخذ ينعم النظر ويراقبه وقد اشتد رعبه. لم يكن هناك شبح واحد، بل لقد كانت هناك أشباح عدة تتحرك بين الأشجار، ورأى وهو يراقبها شبحا يخرج من المنزل وهو يجري، وما لبث أن التحق بالآخرين في الحديقة، ورأى أنهم قد صاروا مجموعة كبيرة: «ترى ماذا يقصدون؟» أخذ دارنلي يسأل نفسه هذا السؤال، ثم ما لبث صدى صوت كلمات ماري الأخيرة أن رن في أذنيه وسط ذلك السكون: «لقد قتل دافيد ريزيو في مثل هذا الوقت من العام الماضي!»
واشتد رعبه فما وسعه إلا أن يقفز من الغرفة إلى حيث كان خادمه نائما على المقعد، وأخذ يهزه هزا عنيفا وهو يقول له هامسا بصوت أجش: قم أيها الغلام، قم، قم؛ فقد هاجمنا الأعداء.
كان دارنلي يريد أن يصرخ بهذه الكلمات، ولكن صوته خانه؛ إذ تملك الرعب كل جزء من جسمه حتى حنجرته.
واستيقظ الخادم في الحال، وأسرع الاثنان - والملك بلباس نومه الذي نزل به من فراشه - وخرجا من الغرفة في الظلام الدامس وهما يتلمسان الطريق إلى أن وصلا إلى النوافذ الخلفية التي كانت موجودة في الردهة، وفتح دارنلي نافذة منها وأرسل الخادم ليأتيه بغطاء تمكنا بواسطة ربط طرفه في النافذة من النزول إلى الحديقة، وما وصلا إليها حتى أسرعا إلى الحائط يقصدان تسلقه للهرب من القصر كله.
كان الخادم يسير في المقدمة والملك يتبعه وأسنانه تصطك من تأثير البرد والخوف الذي تملكه، إلا أنه في تلك اللحظة عينها خيل إليهما أن الأرض قد مادت تحت أقدامهما، فوقعا على وجهيهما دون أي إنذار سابق، وما لبثا أن رأيا ضوءا قويا جدا أنار الظلام السائد، وصحبته أصوات فرقعة هائلة مرعبة كأن الأرض كلها قد تأثرت بها.
ولبث الملك والخادم بضع لحظات حيث وقعا وقد فقدا نصف شعورهما، وكان الخير لهما لو أنهما استمرا منكفئين على الأرض حيث كانا، إلا أن دارنلي استعاد شعوره بسرعة وقفز واقفا على قدميه، ثم جذب إليه الخادم وأعانه على الوقوف معه، وبدأ يتحرك، فما لبث أن سمع صوت صفير منخفض ينبعث خلفه من الظلام، ونظر من وراء كتفه إلى القصر فرأى الدخان وقد بدأ يتصاعد منه. وفي وسط ذلك الدخان المتكاثف لاحظ الأشباح التي رآها من نافذة غرفته وقد بدأت تتحرك في الظلام وتقترب منه، فعرف أنهم قد شاهدوه؛ فإن لباس النوم الأبيض الذي كان يلبسه دلهم على مكانه في الظلام.
Неизвестная страница