سياسية غاندي وفلسفته
الفصل العاشر
حياة غاندي
يقرأ الإنسان حياة غاندي فيجد في هزائمه وانتصاراته، ذلك الإلهام الذي يجده في الكتب المقدسة أو في الأساطير التي أنشأها عظماء الأدباء لكي يرسموا فيها الصور الرائعة للمثل العليا للإنسانية. وإنها لمن أحسن حظوظنا أننا عشنا في زمن رأينا فيه رجالا ونساء يخدمون البشر خدمة الإخلاص والوفاء، لا يبغون من وراء ذلك مصلحة شخصية لأنفسهم من مال أو وجاهة أو نفوذ، فهذا «ولسون» مات بيننا وهو يدعو إلى جحد الحروب التي كان يتجمد بها أسلافنا، وقد أفلح في تأسيس عصبة الأمم. وهذه المسز «بيزانت» تدعو الآن إلى الروحية وترفعنا فوق الأنانيات الصغيرة، وهي مع أنها إنجليزية تقود الهنود لمقاومة الإنجليز. وهذا «تولستوي» الذي عاش بيننا كأنه أحد الملائكة، ثم هذا غاندي الذي، يدافع الآن عن الكرامة الإنسانية في وجه المدافع الإنجليزية.
وهؤلاء العظماء يثبتون لنا أن زماننا ليس بذلك الزمن المادي الذي توهمنا الظروف أننا نعيش فيه، بل إننا نصبو إلى الروحية ونضع الكرامة الإنسانية فوق اعتبارات المال والمصالح الشخصية. والزعيم يمثل في شخصه ومبادئه أماني الأمم وخواطرها السامية، ولذلك فإن بذور هذه المثل العليا التي ننشدها، وما زال ينشدها أمثال تولستوي وغاندي والمسز بيزانت، هي كائنة في قلوب جميع الناس. وإنما نبتت وبسقت في قلوب الزعماء لأن مهمة العبقري أن يوضح للناس ما غمض في نفوسهم من الأماني السامية التي يحسون بها ولا يستطيعون التعبير عنها. ولا يمكنه أن يخلق شيئا جديدا ليس في نفوسهم.
فأنا وأنت وجميع الناس ننطوي على هذه البذور الشريفة التي نزعت بغاندي وولسون وتولستوي والمسز بيزانت وأمثالهم إلى الرقي النفسي والأخلاقي. فهم القمة التي لم تكن لو لم نكن نحن لها القاعدة. ولذلك فمهما رأينا من الظلام والظلم، ومهما حاطنا من الحيوانية والتوحش، ومن اللؤم والدناءة، فإنا يجب أن نثق بفوز الإنسانية والشرف والعدل والنور. وهل تريد برهانا على ذلك أكبر من أن جميع شعوب الأرض تعرف الآن اسم غاندي، هذا الرجل الفقير بل المعدم الذي يسير عاري القدمين حاسر الرأس. وتخصه بأكرم مكان في قلوبها، بينما هي تجهل كل الجهل أولئك الأمراء والملوك والسلاطين الذين يتقلبون في الديباج والجواهر ويحكمون الملايين من الهنود؟
أليس في هذا البرهان على أن نفس الإنسان قد تطورت، وأنه صار يضع القوى المعنوية، قوى الحق والعدل والنزاهة والشرف، فوق القوى المادية: قوة الجيوش والمال والبطش والسلطان؟ •••
يخطر ببالي وأنا أقرأ حياة غاندي ذكرى هؤلاء القديسين الذين تذكر تواريخهم الكنائس المسيحية. فمن عادة الكنيسة الكاثوليكية أنها تقرر من آن لآخر أنها قدست أحد الناس، أي أدخلته في زمرة قديسيها، وأعطته رتبة دينية لا يعلو عليها سوى رتبة الأنبياء. وقد فعلت ذلك بجان دارك، التي قتلتها الكنيسة أولا بتهمة الهرطقة، ثم عادت بعد 300 سنة فاعترفت بخطئها وأعلنت أنها من القديسات المسيحيات.
وقد يجلب هذا العمل ضحك المستهزئين لأن القداسة تقرر بقرارات يقوم بها البشر، ولكن إذا نحن تأملنا المغزى من هذا العمل وجدنا فيه أحسن صلة تصل بين الدين والدنيا، تكسب الدين حياة كما تكسب الدنيا تقوى، وتجعل الكنيسة تعترف للناس بأن القداسة في مقدور كل إنسان يريد خدمة الناس والانتقال بهم إلى أطوار أخلاقية أسمى مما عرفوا في سابق تاريخهم. وعلى هذا كان يجب أن تكون لنا هيئات دينية تعترف لأمثال غاندي وتولستوي وولسون بالقداسة، وتحفظ أقوالهم في كتب مقدسة ينشأ عليها الصبيان في المدارس، ويتدارسها الشبان في الجامعات، ويحاول الزعماء أن يوضحوا مراميها أو يسموا عليها بتعاليم جديدة. •••
ولد غاندي في ولاية هندية صغيرة في غرب الهند تدعى «كثياوار» سنة 1869، وكان أبوه رئيس الوزارة في هذه الولاية، ولكنه كان من الصدق في الخدمة والنزاهة في المعاملات المالية بحيث لم يترك بعد وفاته إلا القليل من المال لأولاده. وقد تعلم غاندي من أبيه الصدق والصلابة، كما تعلم من أمه التقوى. وكان ضئيل الجسم في صباه كما هو الآن في شيخوخته. ودخل مدرسة ابتدائية فلم يتقدم فيها كثيرا. والعادة الفاشية بين بعض الهندوكيين أن يقتصروا من الطعام على الخضروات وما تنتجه الأرض دون طعام اللحم. وسار غاندي على ذلك مدة ولكن عندما رأى ضعفه خطر له أن يأكل اللحوم، ووجد من نصيحة صديق له ما قواه على ذلك، ولكنه عاد فندم على مخالفته للدين، ولم يسترح إلا عندما اعترف وطلب الغفران.
Неизвестная страница