ومما يدعو إلى العجب أن ماكولي، الذي عمم اللغة الإنجليزية في التعليم في الهند، كان يسيء الظن بالهنود، حتى كاد يحسبهم غير جديرين بالرقي. ولكنه في هذا الاعتقاد السيئ، الذي بعثه في نفسه ما كان يرى من جمود الهنود، لم يكن يعرف مقدار التنبيه الذي تبعثه الثقافة الإنجليزية التي تمثل في عصرنا الحاضر أحسن ما كان في ثقافة الإغريق القدماء، وتزيد عليها جدا ورجولة.
والناس عندما يذكرون الحرية تلتفت أذهانهم إلى الثورة الفرنسية، مع أن بذرة هذه الثورة ترجع إلى إنجلترا، وقد دعا أحد دعاتها «فولتير» إلى الدستور الإنجليزي. وكان خطيبها «ميرابو» يدعو هذه الدعوة أيضا. وإذا كنا نحن نرى الآن في غاندي داعية مخلصا للحرية والإخاء والمساواة، فإن آباءنا في القرن الماضي كانوا يرون في «غلادستون» على الرغم من تعصبه الديني، هذا الداعية أيضا، بحيث يمكن أن نجد صلة روحية بين الاثنين.
الفصل السادس
المصلحون الدينيون
ليس غاندي أول المصلحين للهندوكية الداعين إلى تطهيرها مما علق بها من طبقات التقاليد الكثيفة، فقد ظهر في الهند دعاة للإصلاح قبل غاندي، وكثير من هؤلاء كانوا من البراهمة. فإننا نقرأ الآن عن اختلاط غاندي بالمنبوذين، ولكنه ليس مع ذلك الأول في الميدان، فمنذ سنوات عرف أحد البراهمة وهو «راما كرشنا» بمثل هذه الدعوة، وقد كنس بيتا لأحد المنبوذين، بشعر رأسه، لكي ينفي عنهم تهمة النجاسة. وفي سنة 1926 قتل زعيم من زعماء الهندوكية يدعى «شرادان»، كان يؤاكل المنبوذين ويعلمهم طرق المقاومة السلبية للهندوكيين المتعصبين، وهي الطرق التي دعا إليها غاندي جميع الهنود لمقاومة الإنجليز. وقد حدث في ملابار أن قصد إليها هذا الهندوكي المصلح يطلب للمنبوذين المساواة، وكانت التقاليد في هذه البلاد تقضي بألا يسير المنبوذون على الطرق العامة التي تسير عليها سائر الناس، فحضهم على العصيان، وصاروا يسيرون على الطرق العامة فيقبض عليهم ويحبسون، وبقوا على ذلك مدة طويلة إلى أن ألغيت هذه التقاليد في ملابار وانهزم الرجعيون.
وقد كان البراهمة - كما يعرف القارئ لكتاب كليلة ودمنة - سادة الهند وحكامها وكهنتها. ولكن دخول الإسلام في الهند زعزع سلطانهم، ثم جاء الإنجليز فأزالوه، فلم يبق لهم الآن سوى السلطان الروحي على الهندوكيين. وهذا السلطان نفسه قد فتح لهم أبوابا لزيادة الثروة والرقي، فإنهم اختصوا بالوزارات وتقلد المناصب العالية ودرسوا الآداب والطب وكانوا إلى وقت دخول الإنجليز يتولون إدارة البلاد ويتزعمون ثقافتها.
ولكن هذا السلطان لم يكونوا ليستطيعوا الاحتفاظ به لو لم تكن لهم أو لمعظمهم أخلاق صارمة. فإن قسما كبيرا منهم لا يذوق اللحم، وجميعهم بلا استثناء لا يذوقون الخمور، وقد ظهر بينهم قديسون عاشوا عيش الصلاح والتقشف والزهد. ومن هنا قوتهم أو بعض قوتهم. فإنه ليس من المعقول أن تستطيع طبقة الاحتفاظ بالسيادة آلاف الأعوام إذا لم تكن فيها صفات السيادة.
ومن المصلحين الذين يشار إليهم في الهند «سرسواتي». فإنه دعا إلى إهمال المناسك والشعائر والاقتصار على «الويدا» أي الكتاب المقدس، وطلب محو الطبقات والمذاهب. ولهذا المصلح شيعة يعد أفرادها بالملايين، وهم يخالطون المنبوذين كما يخالطون البراهمة، لا يعرفون فرقا بينهما. وهم يعلمون بناتهم ويجعلونهن يختلطن بالرجال ولا ينفصلن في حرم خاص بالمنزل.
وقد أسسوا مئات من المدارس التي تعيش بالتبرعات ولا تساعدها الحكومة بشيء من أموالها. وأرسلوا الرسالات التبشيرية إلى جميع أنحاء الهند، لمحو النجاسة وإلغاء الحجاب وتعليم المرأة وتطهير الهندوكية من الأساطير والمناسك والعودة بالدين إلى فطرته الأولى. وهم لا يعبدون الأصنام، ولا يسمون أنفسهم بشعار الطبقات، وقد استطاعوا بحركتهم هذه أن يصدوا حركات المبشرين من المسيحيين.
وشيعة سرسواتي هذه قد استطاعت أن تحارب التقاليد الهندوكية التي كانت تقول بإحراق الأرملة. فلما ألغت الحكومة الإنجليزية ذلك بقي عند الهنود احتقار الأرملة والتشاؤم من رؤيتها. ولكن جهود سرسواتي جعلت الأمة والحكومة معا تقبلان زواج الأرملة، وهذه معجزة في الهند.
Неизвестная страница