وسحبت التليفون من فوق الرف، ووضعته فوق ركبتيها، ورفعت السماعة، ولكنها أعادتها بسرعة إلى مكانها، فقد تذكرت أنها استنفدت إجازاتها المرضية جميعا، ولا يمكن لأي مرض أن يشفع لها؛ بل لا يمكن للموت أيضا أن يمنحها إجازة، فقد ادعت الموت لكل أفراد أسرتها واحدا وراء الآخر، ولم يبق على قيد الحياة إلا هي، وهي لا تزال في الثلاثين، ولا يمكن لمدير القسم أن يصدق خبر موتها بسهولة.
ونهضت مرة أخرى تجر جسمها الثقيل، وتضغط بأصابعها فوق معدتها، ومرت بالمرآة متفادية النظر إليها، وارتدت ملابسها، واتجهت إلى الباب، وبينما هي تفتح الباب سمعت صوت أمها الواهن ينبعث من المطبخ قائلة: ألن تشربي الشاي؟ - ليس عندي وقت.
وأغلقت الباب خلفها وخرجت إلى الشارع.
كان الشارع مزدحما، لكنها لم تكن ترى شيئا، كانت عيناها لا تنظران إلى الخارج، وكان من الممكن أن تصطدم بشخص أو جدار، لكن قدميها كانتا تسيران وحدهما، بدراية عظيمة، تصعدان فوق الرصيف وتهبطان من فوق الرصيف تتفاديان حفرة، وتلفان حول كوم من الطوب، فكأن في قدميها عينين أخريين. وتوقفت قدماها عند محطة الأتوبيس، كان الزحام شديدا، وكانت الأجساد ترتطم بها، وداس شخص على قدمها وكاد يفرمها لكنها لم تحس إلا ضغطا ما فوق حذائها، ولم تعرف أنها داخل الأتوبيس إلا بتلك الاهتزازة التي تصيب جسدها، وتلك الرائحة الغريبة، التي لا تعرف تماما ما هي؛ فهي رائحة لا يألفها الأنف، ولا يعرف كيف يردها إلى مصدرها، فليس لها مصدر واحد، ليس هو الزوايا المنفرجة تحت الإبط، وليس هو الكهوف المظلمة اللاهثة وليس هو القشرة المشققة الخشنة يلتصق بها الشعر اللزج.
وتنبهت إلى شيء ما مدبب يضغط على كتفها، وكانت قد أحست به ولم تعره اهتماما، إن ضغوطا كثيرة، تضغط من كل ناحية على أعضائها جميعا، فلماذا تخص كتفها بهذا الاهتمام؟ ولكنها سمعت صوتا خشنا حادا يدخل أذنها كمسمار: التذكرة! وانتشر فوق وجهها رذاذ صغير كبشائر المطر، وفتحت حقيبتها بأصابع مرتجفة، فالرجل ينظر إليها نظرة غريبة، كنظرة شرطي إلى لص محترف، وهو يزمجر بكلمات لم تسمعها كلها، لكنها التقطت منها كلمتي ذمة وضمير.
وأحست أن وجهها يسخن، ليس لأنها سمعت هاتين الكلمتين، فهما وحدهما هكذا بغير حواشي وحروف أخرى لا يعنيان لها شيئا، لكنها رأت العيون كلها من حولها تتجه نحوها، وفي كل عين منها نظرة غريبة، كأنهم يحسون من أعماقهم أنهم متهمون مثلها ويحاولون نفي التهمة عن أنفسهم، ولكنهم يعلمون أنهم نجوا من العقاب ولم يبق لهم إلا تلك الشماتة الخفية فيمن يقع منهم.
ولكنها كانت متهمة على أي حال، وما دامت قد أصبحت متهمة، فقد ضاعت حقوقها في الاحترام، واستباحت عيون الرجال أعضاء جسمها كما يستبيحون أعضاء المومسات، وأحست بشيء يدفعها، وتقلصت عضلاتها داخل المعطف الواسع، ودفست رأسها في الياقة العريضة، ولم تثبت قدميها في الأرض لتترك جسمها في مهب التيار المتجه نحو الباب، وانقضت لحظة لم تعرف مداها من الانضغاط العنيف كورقة شجرة أو فراشة توضع بين الكتب من أجل التحنيط، ثم أحست بالضغط يزول فجأة، وإذا بجسمها يطير في الهواء كريشة حمامة ثم يرتطم بالأرض كقالب الطوب.
نهضت تنفض التراب عن معطفها، وشعرت بسعادة خفية حين تلفتت حولها فرأت مكانا لم تره من قبل، فقد خيل إليها أنها انتقلت إلى العالم الآخر في تلك اللحظة التي طار فيها جسمها في الهواء، لكن سعادتها لم تدم طويلا، فقد وجدت نفسها بعد خطوات قليلة أمام السور الحديدي الصدئ، وضغطت الدودة المزمنة بأسنانها على جدار معدتها، وباعدت ما بين فكيها لتفرغ ما في جوفها، لكن هواء جافا لاسعا اندفع من بين شفتيها، ودمعة صغيرة تجمدت عند زاوية عينها اليمنى وأخذت تحك فيها كذرة رمل.
رفعت رأسها إلى فوق، ورأت من خلال القضبان الحديدية ذلك المبنى الأسود، تتخلله بقع صغيرة صفراء تفضح لونه الأصلي، وعرفت بما يشبه اليقين أن هناك علاقة ما بين هذا المبنى وبين رغبة القيء المزمنة التي تشكو منها، فهي تبدأ حين تذكره، وتشتد شيئا فشيئا باقترابها منه، ثم تبلغ درجتها القصوى حين تبلغه، وتراه عينا لعين.
وقفت أمام الباب الحديدي لحظة تتلفت حولها، لم تكن تتعجل الدخول، فلتؤخر دخولها لحظة، من يدري؟ لعل في هذه اللحظة بالذات تسقط قنبلة من الجو فوقه، أو يرمي أحدهم عقب سيجارة مشتعلة في مخزن الملفات، أو تتوقف المضخة البالية في صدر مدير القسم فيصاب بسكتة قلبية.
Неизвестная страница