وسمعت صوت الساعاتي يقول وكأنه يأتي من بعيد: يبدو أنك متعبة. اخلعي هذه الفوطة البيضاء وتعالي نخرج لنشم الهواء. ونظر في ساعته ثم قال: عندي اجتماع الليلة في المجلس السياسي ولكني لن أذهب؛ هذه الاجتماعات السياسية مملة جدا؛ لا أدري كيف أتكلم فيها كل هذا الكلام، وفي كل مرة أقول الكلام نفسه.
وتذكرت فجأة الموضوع الصحفي الذي قرأته مرارا، وصورته التي نشرت كثيرا، وقالت: يبدو أن لك نشاطا سياسيا واسعا. وقال: لماذا؟ قالت: يخيل إلي أنني قرأت كثيرا عن هذا النشاط. وضحك ضحكة قصيرة اهتزت لها نظارته السميكة وقال: أتقصدين ما يكتب في الصحف؟ يخيل إلي أن الناس لم تعد تصدق شيئا مما يكتب، إنهم يقرءون الصحف بحكم العادة وليس لسبب آخر. هل تقرئين الصحف كل يوم؟
قالت: أقرؤها ولا أقرؤها، وابتسم وظهرت أسنانه ككل مرة، وقال: وماذا تقرئين فعلا؟ قالت وهي تتنهد: الكيمياء. وقال: تتكلمين عن الكيمياء وكأنك تتكلمين عن رجل تحبينه. هل أحببت رجلا مرة؟
وكأنما سكب فوق رأسها ماء باردا فأفاقت لتجد نفسها واقفة في النافذة وإلى جوارها الساعاتي. واستدارت بسرعة فوجدت المعمل خاليا صامتا، ونظرت في الساعة: كانت الحادية عشرة، كيف حدث هذا؟ ألم تحاول الهروب من المعمل قبل أن يأتي؟ وتذكرت حادثة الرجل والمرأة. ولكن ألم يكن في استطاعتها أن تنزل من المعمل مباشرة؟ واختلست نظرة إلى الساعاتي، كان متكئا على النافذة بنصفه الأعلى الكروي الضخم يتدلى من تحته ساقاه الرفيعتان كساقي النعامة. وكانت عيناه تتذبذبان من تحت الزجاج السميك وفيهما تلك النظرة الضفدعية الجاحظة، وخيل إليها أنها أمام نوع غريب من الزواحف البرية غير المستأنسة، وتلفتت حولها في شيء من الخوف، وقالت وهي تخلع الفوطة البيضاء وتتجه إلى الباب: يجب أن أعود إلى البيت فورا.
ونظر إليها في دهشة ثم قال: كنا نتكلم في هدوء فما الذي حدث؟ هل ضايقك سؤالي؟ وقالت: لا لا، لم يضايقني شيء، ولكن أمي وحدها في البيت ولا بد أن أعود فورا. وقال وهو يسير معها إلى الباب: يمكنني أن أوصلك بعربتي. وفتحت الباب وهي تقول: أشكرك. سآخذ الأتوبيس. وقال: الأتوبيس! في هذا الوقت المتأخر؟! لا يمكن! وهبطا إلى الدور الأرضي وسبقها إلى عربة زرقاء طويلة وفتح لها الباب، ورأت البواب ينتصب واقفا في احترام. ووقفت لحظة مترددة، كانت تريد أن تهرب لكنها لم تعرف، كان الباب مفتوحا، والرجلان واقفان ينتظران دخولها، فدخلت وأغلق الساعاتي الباب، ثم أسرع إلى الناحية الأخرى من العربة وفتح بابها وجلس وأدار المحرك.
كان الشارع خاليا إلا من عدد قليل من الناس والعربات، وكان الهواء باردا ورطبا، ورأت رجلا يقف أمام كشك سجائر، وارتعدت فجأة وكادت تصيح: فريد! لكن الرجل استدار ورأت وجهه. لم يكن فريد، وانكمشت داخل المعطف ترتجف ببرودة مفاجئة، ونظر إليها الساعاتي وقال: هل رأيت أحدا تعرفينه؟ قالت بصوت خافت: لا، وسألها: أين تسكنين؟ قالت: في الدقي. ووصفت له الشارع والبيت.
اجتازت العربة كوبري قصر النيل، ورأت برج القاهرة واقفا منتصبا في الظلام كشبح ضخم، وعيناه الحمراوان المتوهجتان تدوران حول رأسه دورانا مستمرا. وشعرت بدوار وهي تحملق في الكرات المتوهجة الدائرة حول نفسها، وبدا لها البرج برجين اثنين وله رأسان يدوران، ودعكت عينيها بيديها فاختفى البرج الثاني وبقي برج واحد له رأس واحد يدور، ثم ظهر البرج الثاني، ودعكت عينها ليختفي البرج الثاني لكنه لم يختف، ونظرت إلى الساعاتي بطرف عينها ورأت له رأسين وأربع عيون جاحظة وارتعدت وأخفت وجهها بيديها.
وسمعت صوته يقول: أنت متعبة ... وقالت وهي ترفع رأسها: أشعر بصداع، ونظرت من خلال النافذة. كان الظلام كثيفا فلم تر إلا كتلا من السواد، وتذكرت فجأة قصة قرأتها عن رجل شاذ كان يتصيد النساء ويذهب بهن إلى مكان مظلم بعيد ويذبحهن، واختلست نظرة حذرة إلى الساعاتي، كان جالسا وعيناه الجاحظتان تنظران إلى الأمام، ورقبته المكتنزة باللحم تستند إلى الكرسي، وركبتاه الرفيعتان مدببتان. والتفت ناحيتها، فنظرت من النافذة. كانت البيوت مغلقة بالشيش ومظلمة، لا نور يظهر في نافذة ولا أحد يسير في الشارع.
لماذا ركبت معه العربة؟ من هو؟ إنها لا تعرفه، لا تعرف عنه شيئا، أهي صاحية أم أنها تحلم حلما مزعجا؟ وضغطت بظفرها على فخذها لتتأكد من وجودها.
وخيل إليها أن العربة تقف، وارتعدت وهي تلتصق بالباب، وسمعت صوت الساعاتي يقول: أهذا هو البيت؟ ونظرت من النافذة، ورأت بيتها فهتفت بدهشة: إنه هو! وفتحت الباب وخرجت مسرعة، وخرج هو أيضا، وسار معها إلى الباب. كان السلم غارقا في ظلام دامس، وقال لها: أنت متعبة والسلم مظلم، هل أصعد معك حتى باب الشقة؟ قالت بسرعة: لا لا أشكرك. سأصعد وحدي، ومد يده الطرية وهو يقول: هل أراك غدا؟ وقالت في اضطراب: لا أدري، لا أعلم، ربما لا أخرج غدا، وبرقت عيناه البارزتان في الظلام، وقال: أنت متعبة، سأسأل عنك بالتليفون، وابتسم؛ لا ترهقي نفسك في الأبحاث الكيميائية!
Неизвестная страница