وخطر لها في هذه اللحظة خاطر غريب، فقد تصورت أنها سترى فريد مارا أمامها في الشارع، لم يكن تصورا فحسب ولكنه كان كاليقين؛ بل لقد خيل إليها أن قوة ما خفية هي التي ساقتها إلى هذا المقهى بالذات وفي هذا الشارع بالذات وفي هذه الدقيقة بالذات لكي ترى «فريد».
ولم تكن تؤمن بالأرواح الخفية، كان عقلها كيميائيا لا يؤمن إلا بما يخضع للتحليل الكيميائي ويوضع في أنابيب الاختبار، ولكن هذا الخاطر سيطر عليها بدرجة كبيرة إلى حد أنها ارتجفت من الرهبة، فقد تصورت أنها في اللحظة التي ترى فيها «فريد» ستسقط على الأرض ويصعقها الإيمان. وشدت عضلات وجهها وجسمها متأهبة للصاعقة التي ستحل بها حين يقع بصرها على فريد سائرا بين الناس وظلت عيناها تبحثان في الوجوه المارة ولا ترمشان، وأنفاسها تهبط ولا تصعد، وقلبها يدق بعنف وكأنه يفرغ آخر جرعاته.
ومرت لحظة ولم تر «فريد»، وابتلعت ريقها، كأنما تسترد بعض هدوئها، كأنما تحمد الله على أنه لم يظهر وعلى أنها لم تصعق، ومرت لحظة أخرى فبدأت تشعر بالقلق لأن النبوءة لم تتحقق ولأنها سوف تسقط مرة أخرى في هوة الانتظار، ولكنها كانت لا تزال تأمل في أن تراه، وظلت تحملق في وجوه الرجال تفرز بسرعة كل وجه، وكان بعض الرجال يشترك مع فريد في شيء من الملامح والحركات، وكانت عيناها تستقران لحظة على الشيء المتشابه وكأنها ترى جزءا حقيقيا من فريد.
ومر وقت طويل قبل أن تتأكد فؤادة من كذب النبوءة الغاشمة، وارتخت عضلات رأسها ورقبتها في خيبة أمل، لكن راحة خفية كانت قد تسربت إلى نفسها، تلك الراحة التي تعقب التحرر من مسئوليات الإيمان. •••
مضت ثلاثة أيام وأصبح المعمل معدا، كان اليوم الثلاثاء بعد الظهر، حين سارت فؤادة في شارع قصر النيل في اتجاه المعمل، تحمل في يدها لفة بها بعض أنابيب اختبار وخراطيم رفيعة من «الكاوتش»، كانت على الرصيف المواجه للعمل فوقفت مع الواقفين عند الإشارة لتجتاز الشارع.
بينما هي واقفة تنتظر اللون الأخضر، رفعت رأسها إلى واجهة العمارة. كانت اللافتات تغطي النوافذ والشرفات والأبواب والمساحات الخالية من الجدران، لافتات بأسماء أطباء ومحامين ومحاسبين وخياطين ومدلكين وغيرهم من ذوي المهن الحرة. كانت الأسماء مكتوبة بخط أسود عريض فوق أرضية بيضاء فبدت لها كصفحة الوفيات في جريدة، والتقطت عيناها اسمها؛ فؤادة خليل سالم مكتوبا بأحرف سوداء في أعلى الصفحة، وأحست بثقل في قلبها كأنها تقرأ نعيها، لكنها كانت تعلم أنها لم تمت، وأنها واقفة عند الإشارة تنتظر اللون الأخضر، وأنها قادرة على تحريك ذراعيها، واصطدمت ذراعها وهي تحركها برجل كان يقف إلى جوارها مع ثلاثة من الرجال، وكانوا ينظرون جميعا إلى واجهة العمارة ويقرءون اللافتات، وخيل إليها أنهم ينظرون إلى اسمها هي بالذات، فانكمشت داخل معطفها في خجل، وخيل إليها أن حروف اسمها لم تعد خطوطا من الطلاء الأسود، وإنما أشياء مجسدة كالأعضاء، كأعضاء جسمها، لم تدر كيف تصورت هذا، لكنها أحست وعيون الرجال تتأمل اسمها المعروض كأنما يتأملون جسمها العاري ممدودا فوق النافذة، وفتحت الإشارة فاندست بين السائرين تتخفى بينهم، وتذكرت حادثة وقعت لها وهي في السنة الأولى بالمدرسة الابتدائية. كان مدرس الدين بأنفه المقوس الغليظ كمنقار البطة واقفا في الفصل يشرح للبنات الصغيرات ما بين السادسة والثامنة من العمر تعاليم الدين التي تنص على احتشام الإناث، وقال في ذلك اليوم إن الأنثى لا بد أن تغطي جسمها لأنه عورة، ولا تتكلم في حضرة الرجال الغرباء لأن صوتها عورة، وقال أيضا إن اسمها عورة ويجب ألا يذكر علنا أمام الرجال الغرباء، وضرب مثلا بنفسه قائلا: حين يعن لي وللضرورة القصوى أن أذكر زوجتي في حضرة الرجال فإني لا أنطق اسمها الحقيقي وإنما أطلق عليها اسم الجماعة.
كانت فؤادة الطفلة الصغيرة جالسة تسمع، ولم تكن تفهم شيئا مما يقال، لكنها كانت تقرأ ملامح المدرس وهو يتكلم، وحين نطق كلمة عورة لم تفهم معناها، لكنها أحست من التعبير الذي ارتسم على ملامحه أنها تعني شيئا قبيحا ومزريا للغاية فانكمشت في الدرج حسرة على نفسها المؤنثة، وكاد أن يمر اليوم بسلام كأي يوم آخر لولا أن مدرس الدين عن له في تلك اللحظة أن يسألها عن معنى ما قاله، فوقفت تنتفض من الذعر، وبينما هي واقفة لم تدر كيف فلت البول من بين ساقيها بغير إرادة، واتجهت عيون البنات جميعا إلى ساقيها المبتلتين، وأرادت أن تبكي لكنها لم تستطع من شدة الخزي. •••
أصبحت فؤادة في معملها الكيمياوي، كل شيء من حولها يبدو جديدا مغسولا ينتظرها؛ الأنابيب، المخابير، الأجهزة، الأحواض، وكل شيء، واقتربت من الميكروسكوب الموضوع على منضدة خاصة لها ضوء خاص، وحركت مساميره، وهي تنظر من خلال العدسة، ورأت دائرة الضوء نظيفة خالية، وقالت لنفسها: ربما أجد ضالتي يوما في هذه الدائرة.
وشعرت برغبة في العمل؛ فلبست الفوطة البيضاء وجهزت الأنابيب، وأشعلت موقد الغاز، كان ضوء اللهب زاهيا فأمسكت أنبوبة اختبار بماسكها المعدني الخاص، وغسلتها غسلا دقيقا خشية أن تظل بها ذرة تراب وقربتها من لسان اللهب حتى جفت تماما، ثم شدت عضلاتها وتأهبت لإجراء البحث.
لكنها ظلت ممسكة بالأنبوبة الفارغة تحملق فيها وكأنها نسيت موضوع البحث وأحست بعرق بارد يندي جبينها وقد فوجئت بسؤال بدهي كانت تعرف جوابه دائما، لكنها حينما ووجهت بالسؤال وبدأت تفكر، هرب منها الجواب، وكلما كانت تفكر وتفكر كان يهرب منها أكثر وأكثر. وتذكرت يوما قرأت لها زميلة الفنجان لتدلها على بعض أحداث المستقبل، وبينما كانت الزميلة تقرأ الفنجان سألتها فجأة: ما اسم أمك؟
Неизвестная страница