كانت تحملق في الجدار الأبيض المجاور للدولاب، وكان هناك شيء أسود فوق اللون الأبيض، شيء على شكل مربع، على شكل إطار صورة، كانت الصورة لفتاة بملابس العرس البيضاء الطويلة، تمسك بأصابعها الملفوفة كأصابع الموز باقة ورد، وإلى جوارها شاب طويل الوجه له شارب أسود، كانت فؤادة منذ وعت الحياة ترى هذه الصورة معلقة في الصالة، ولم يحدث مرة أن وقفت أمامها ودققت النظر، كانت أمها تقول إنها صورة زفافها لكنها كانت تراها من بعيد وكأنها صورة فتاة أخرى غير أمها.
وحدث مرة أن وقفت فؤادة أمام الصورة وتأملتها، كان ذلك بعد موت أبيها بسنة أو أكثر، وكانت مدرسة التاريخ قد ضربتها بالمسطرة عشرين مرة فوق أصابعها، مرتين فوق كل أصبع، وعادت فؤادة إلى البيت تشكو لأمها، فصفعتها أمها على وجهها بسبب إهمالها التاريخ، ثم ذهبت إلى الخياطة وتركتها بالبيت وحدها. لم تدر فؤادة يومها لماذا وقفت أمام الصورة، لكنها كانت تتجول في البيت وتتأمل الجدران كالسجن. ولأول مرة ترى الصورة، لأول مرة ترى وجه أبيها، وتأملت عينيه طويلا وخيل إليها أنهما تشبهان عينيها، وكأنما اخترق قلبها سكين حاد، فقد اكتشفت فجأة أنها تحب أباها، وأنها تريده، تريد أن ينظر إليها بهاتين العينين وأن يطوقها بذراعيه. ودفنت رأسها في وسادة الكنبة وأخذت تجهش بالبكاء. كانت تبكي لأن أباها مات دون أن تبكي، وتمنت في تلك اللحظة أن يحيا أبوها ثم يموت مرة أخرى لتبكي، حتى يستريح ضميرها. ومسحت عينيها في ملاءة الكنبة ونهضت وخلعت الصورة من مسمارها ومسحت التراب من فوق زجاجها، ونظرت إليها مرة أخرى، وكأنما كان التراب يحجب عنها عيني أمها، لأنها ظهرتا أمامها واضحتين واسعتين فيهما نظرة غريبة لم ترها من قبل، نظرة شرسة ظالمة. ورفعت فؤادة الصورة لتعلقها في مسمارها لكنها أخذتها معها إلى حجرتها ودقت لها مسمارا بجوار الدولاب وعلقتها، ونسيتها في ذلك المكان ولا تذكر أنها نظرت إليها مرة أخرى.
أغمضت فؤادة عينيها لتنام، لكنها أحست بشيء ما بين جفنيها، له ملمس الدموع، لكنه يحرق، ودعكت عينيها وهي تمسحها بطرف ملاءة السرير، وضغطت رأسها فوق الوسادة وشدت الغطاء فوقها لتنام، لكن الطنين بدأ يرن في أذنيها كرنين جرس خافت لا ينقطع، وتذكرت شيئا فنهضت بسرعة وأدارت قرص التليفون الخمس الدورات، وجاءها الجرس العالي الحاد. الليلة الثالثة وفريد غائب عن البيت. أين يمكن أن يكون؟ عند أحد أقاربه؟ ولكنها لا تعرف أحدا من أقاربه. عند أحد أصدقائه؟ وهي لا تعرف أيضا أحدا من أصدقائه. إنها لا تعرف إلا هو، وهي لا تعرفه تلك المعرفة التقليدية، لا تعرف ماذا كان أبوه، وكم قيراطا يمكن أن يرثه عنه، وكم يقبض كل شهر، وكادر وظيفته والدرجة والاختصاصات، وبيان الجزاءات والاستقطاعات ورقم البطاقة وتاريخ الميلاد. إنها لا تعرف شيئا من هذه المعلومات، ولكنها تعرفه هو بلحمه ودمه، تعرف شكل عينيه وذلك الشيء الفريد يطل منهما ككائن حي، تعرف شكل أصابعه، تعرف طريقته حين يفتح شفتيه ليبتسم، تعرف صوته من بين الأصوات، وتعرف مشيته من بين المئات، تعرف طعم قبلته في فمها، وملمس يده على جسمها، وتعرف رائحته؛ نعم تعرف رائحته جيدا، تستطيع أن تميزها؛ فهي رائحة دافئة خاصة غير عادية، تسبقه بقليل قبل أن يأتي، وتبقى معها بعد أن يمضي، وتظل عالقة بملابسها وشعرها وثنيات أصابعها، فكأنما هي شخص آخر يلازمها، أو كأنما تنبعث منها هي لا منه هو.
ولكن، أهذه هي المعلومات التي تعرفها عن فريد؟ شكل الأصابع، حركة الشفتين، طريقة المشية والرائحة أيضا؟! أيمكن أن تتجول هنا وهناك تتشمم رائحته وتبحث عنه في كل مكان كما يفعل الكلب البوليسي؟ لماذا لم تعرفه أكثر؟ لماذا لم تعرف وظيفته ومكان عمله؟ لماذا لم تعرف بيت أسرته وأقاربه؟ ولكنه لم يكن يقول لها، ولم تكن هي تسأله؛ ولماذا كانت تسأله؟ إنه لم يكن يسألها. كانت زميلته في كلية العلوم وكان زميلها، هكذا كانت بداية القصة.
وسمعت فؤادة صوتا إلى جوارها ففتحت عينيها، ورأت أمها واقفة إلى جوار السرير. كانت عيناها أكثر اتساعا واصفرارا ووجهها أكثر تجعدا، وسمعت أمها تقول: كم يلزمك لإنشاء المعمل؟ وابتلعت فؤادة ريقها وهي تقول: كم بقي معك؟ وقالت الأم: ثمانمائة جنيه وقالت فؤادة: كم يمكن أن تعطي؟ وسكتت الأم لحظة ثم قالت: مائة، وقالت فؤادة: أريد مائتين وسوف أسددها لك. وقالت الأم بصوت يائس: متى؟ إنك لم تسددي ديونك القديمة. ابتسمت فؤادة: وقالت: كيف أسددها؟ إنك تطالبينني بتسعة شهور الحمل وآلام الولادة ولبن الرضاعة وسهر الليالي بجوار المهد! أيمكن أن أسدد كل هذا؟! وقالت الأم: عوضي على الله في هذا، ولكن عليك أن تسددي المائة جنيه التي أخذتها العام الماضي. وقالت فؤادة في شرود: العام الماضي؟! وقالت الأم: هل نسيت؟
تذكرت فؤادة ذلك اليوم من العام الماضي. كانت جالسة فوق السرير كما هي جالسة الآن وفجأة دق جرس التليفون فرفعت السماعة وجاءها صوت فريد، كان يتكلم بسرعة على غير عادته، قال لها: أنا أتكلم من البيت ولكن هناك مهمة عاجلة؛ هل يمكن أن تحصلي على شيء من المال؟ وقالت: معي الآن عشرة جنيهات. فقال بسرعة: أنا بحاجة إلى مائة. قالت متى؟ قال: اليوم أو غدا على أكثر تقدير.
أول مرة يطلب فريد منها شيئا، بل أول مرة يطلب أحد منها شيئا. كانت في ذلك اليوم مريضة بالإنفلونزا، وكانت تحس بصداع شديد، ولم تكن قادرة على أن تحرك جسمها من تحت الفراش، ولكنها أحست فجأة أن قوتها تعود، وجلست تحملق في الجدار وقد خيل إليها أنها قادرة على أن تهدئه لتبحث عن المائة جنيه، ونهضت بسرعة وارتدت ملابسها، لم تكن تعرف من أين ستأتي بالمال، ولكنها تعرف أنها لا بد أن تخرج وتبحث، وبينما هي تتجول في الشوارع كالتائهة خطرت لها أفكار كثيرة من أول الاستدانة بالربا إلى السرقة والقتل، وأخيرا تذكرت أمها، فعادت تجري إلى البيت.
لم يكن سهلا أن تحصل من أمها على المال، لكنها حصلت عليه بعد أن روت لها كذبة كبيرة جعلتها تصدق أن حياة ابنتها معلقة بهذه الجنيهات المائة، وكانت لحظات تاريخية، تلك اللحظات التي بدأت حين وضعت فؤادة المال في حقيبتها وأسرعت تجري إلى بيت فريد، كانت تلهث وتنتفض حين فتح لها الباب، وأسرعت إلى حقيبتها ففتحتها ووضعت الجنيهات المائة فوق المكتب دون أن تنطق بحرف، ربما من شدة السعادة.
نعم؛ كانت سعيدة، ربما كانت في أسعد لحظة مرت بحياتها؛ فقد استطاعت أن تفعل شيئا لفريد، استطاعت أن تفعل شيئا لأحد، شيئا له فائدة ما. ونظر إليها فريد بعينيه البنيتين اللامعتين يطل منهما ذلك الشيء الغريب الذي تحبه ولا تعرفه، وقال: أشكرك يا فؤادة وحوطها بذراعيه وكان يمكن أن يقبل شفتيها ككل مرة يلتقيان في البيت، لكنه قبل جبهتها برقة واستدار بسرعة قائلا: يجب أن أذهب الآن.
بكت فؤادة في تلك الليلة وهي عائدة إلى بيتها، أما كان في استطاعته أن يبقى معها خمس دقائق أخرى؟ أكان مشغولا إلى ذلك الحد حتى إنه لم يقبلها؟ وما الذي يمكن أن يشغله إلى هذه الدرجة؟!
Неизвестная страница