والشهد هنا هو النيل، فمن أراد أن يمتلكه ويتمتع بعذب مائه فليصبر على ما بشاطئيه من حشرات وأمراض، ثم التفت إلى محمود وقال: هذا ابن أخي، فنظر إليه ألبير مبتسما وقال: ولكنه يتزيا بزي المصريين. - لأنه يريد مجاملتهم لتروج تجارته بينهم، أوصلت إليك السجادات العجمية؟ - أنت لم تمهلني لشكرك، وهذا الذباب قد علمني سوء الأدب فلم أسارع منذ رأيتك إلى إظهار ما يملأ نفسي إعجابا بك وبهديتك الغالية، حقا إنها سجادات يزدهي بمثلها قصر الشاه بإيران. - هذا شيء قليل يا صديقي، أشهدت الاحتفال بمقدم نابليون بالأمس؟ لقد كان غاية في العظمة وجلالة الملك. - نعم لقد كان احتفالا فخما، ولم ندخر وسعا في أن يكون صورة لقوة فرنسا وضخامة سلطانها. - ولكني كنت أحب أن يصل نابليون إلى أبعد من عكا. - فابتسم ألبير ابتسامة فاترة حزينة وقال: هذا ما كان يتمناه نابليون ويتمناه كل فرنسي معتقل في أرض مصر، فإنه بعد أن سد علينا طريق البحر بتدمير أسطولنا حاول قائدنا أن يسخر من العقبات، وأن يشق لنا طريقا برية تصلنا بفرنسا، فوقف القدر في وجهه فلم يجد إلا أن يعود أدراجه إلى مصر. - إنها محاولة جريئة، لن يقوم بها إلا نابليون العبقري. - ولكن الثمن كان غاليا جدا، والنكبة فادحة جدا، ولمح نيكلسون غلام الحانة فأمره بإحضار كأس من الخمر، وفنجانتين من القهوة ثم قال: إنهم يقولون: إن نابليون عاد منتصرا، ولكن ألبير مط شفته السفلى في غيظ وأسف، وقال: إن للسياسة يا صديقي لغة لا يفهمها الناس، وحضر الغلام فاحتسى ألبير كأسه دفعة واحدة، وأمر له نيكلسون بأخرى، وهنا مال ألبير نحوه برأسه وقال هامسا: لقد أصبحت لي يا سوسي أخا وحبيبا، ولقد رأيت فيك ميلا للفرنسيين وحبا خالصا لهم، وليس من حرج أن أكشف لك خبيئة كل أمر، لقد اطلعت بالأمس على رسالة طويلة كان بعث بها الجنرال «رينييه» إلى دوجا منذ أسبوع يصف فيها هذه الحملة وصفا دقيقا فيقول: إنهم تغلبوا على الجيش العثماني في العريش، ثم ملكوا خان يونس وغزة والرملة واللد، واستولوا على يافا بعد حصار شديد ومعركة عنيفة، وإن الجنود ارتكبوا في يافا من القتل والنهب ما تقشعر له الأبدان، وفي هذه المدينة انتشر بين الجند وباء ماحق كاد يقضي عليهم جميعا، وفيها أمر نابليون بإعدام ثلاثة آلاف من الجنود العثمانيين دفعة واحدة بعد أن ألقوا السلاح، وبعد أن تعهد لهم بعض ضباطه بسلامة أرواحهم إذا سلموا، ثم استأنف الجيش سيره فاحتل حيفا، ثم اتجه نحو عكا وهي مدينة محصنة بها جيش قوي من العثمانيين يقوده أحمد باشا الجزار، وهو قائد شديد المراس قاس، ذكي الفؤاد، خبير بشئون الحرب، وأخذ نابليون يحاصر عكا من اليوم التاسع عشر من مارس 1799م إلى اليوم الحادي والعشرين من مايو فضرب أسوارها ومعاقلها، واشتعلت المعارك بينه وبين الجزار طاحنة شديدة الأوار، ولما طال الحصار وضعف جند نابليون وعظمت خسائره، ارتد عنها بالبقية الباقية من جيشه، وزاد في قوة عكا أن الأسطول الإنجليزي بقيادة سدني اسمث كان يظاهر جيش الجزار ويحول دون وصول السفن الفرنسية بالذخائر إلى الشاطئ، وقد أسر منها سبعا كانت قادمة من مصر تحمل مدافع الحصار وكثيرا من الذخيرة، فضمها إلى أسطوله، وهكذا عاد نابليون إلى مصر حزينا يائسا بعد أن فقد خيرة رجاله، وبعد أن اضطر أن يترك بيافا جنوده الذين أصيبوا بالطاعون فريسة في أيدي أعدائه، وأن يتخلى عن كثير من مدافعه وذخائره في الطريق لوعورته وضعف جنوده عن جرها، وقد طغى عليه الغضب فأحرق القرى بين يافا وغزة، هذه يا صديقي حملة سورية التي كنا نريد أن نجعل منها بابا خلفيا إلى أوربا. - لقد أحزنتني يا ألبير، إنها حقا لكارثة جائحة تشبه كارثة الأسطول الذي دمره نلسون، ولكن نابليون رجل خلاق للفرص يتخذ دائما من خذلانه ذريعة لفوزه وانتصاره، وسنسمع عنه بعد حين ما ينسينا نكبة سوريا. - إنه يحارب في غير ميدانه يا صديقي، ويحاول اغتصاب بيت بعيد عنه، وهو غافل عن بيته الذي كادت تلتهمه النيران، ويضيع جهوده في صحراء قاحلة بينما يترك جنات أوربا يتواثب عليها الأعداء! هل يعرف الآن ماذا يحصل في أوربا أو في فرنسا من الحوادث الجسام بعد أن انقطعت عنه أخبارها شهورا؟ أنا قد أكون رجلا غبيا، ولكني مع غباوتي هذه أستطيع أن أفهم البديهيات التي لا يدركها سادتنا الأذكياء النابغون.
وطال المجلس فوقف نيكلسون ومحمود وودعا صاحبهما وانصرفا، وأجمل نيكلسون لمحمود ما حدثه به ألبير فاغتبط وقال: هذه ضربة قاصمة ستليها بحول الله ضربات، فقال نيكلسون: أغلب ظني أن نابليون لن يستطيع البقاء في مصر طويلا بعد هذه النازلة، وعلى المصريين أن يهتبلوا الفرصة ويثبوا على الأسد وهو يلعق جراحه.
مضت أيام والمصريون في صورة نفسية عنيفة يكتمها الحذر بعد أن شاعت الأخبار بينهم بهزيمة نابليون بسورية وارتداده عن حصون عكا، ثم ملأت الإشاعات جو القاهرة بنزول الجنود العثمانية بأبي قبر، وأحس نابليون بالحرج وأدرك ما في الموقف من خطر، وبخاصة بعد أن علم أن أسطول سدني اسمث يرافق العمارة العثمانية، فأرسل أوامره إلى قواده ووثب بجيشه على العثمانيين واشتد الصراع وطال أمده، حتى انتهى بهزيمة الأتراك والاستيلاء على مدافعهم وذخائرهم.
ما كاد محمود يتنفس الصعداء ويستبشر بقدوم العثمانيين، حتى دهمه الخبر بهزيمتهم فلزم داره أياما، وحين برحت به آلام الوحدة ذهب إلى نيكلسون بداره يشكو إليه بثه وحزنه، ولكن نيكلسون لاقاه ضاحكا مستبشرا وقال: قربت النهاية يا بني فلا تبتئس. ثم أخرج من صندوق أمامه جريدة إنجليزية وقال: بودي لو كنت تستطيع قراءة هذه الجريدة يا محمود. قابلت بالأمس ألبير وبعد أن تحدثنا طويلا، وهممت بالانصراف أدخل يده في جيب معطفه وأعطاني هذه الجريدة، وقال: اقرأ هذه يا صديقي تعلم أن كل ما تخيلته منذ أيام كان صحيحا. فسألته من أين له بهذه الجريدة فقال: إن سدني اسمث قائد الأسطول الإنجليزي - وهو من نوابغ الإنجليز وكبار عباقرتهم - اغتنم فرصة ذهاب ضابطين بعث بهما إليه نابليون للتحدث في تبادل الأسرى، فأحسن لقاءهما، وزودهما ببعض الصحف الإنجليزية التي كان منها هذه الجريدة، وما كان يريد سدني اسمث بهذه الهدية الغالية إلا أن يطلع نابليون على ما أصاب أوربا من الاضطراب، وما دهيت به جيوش الفرنسيين في إيطاليا من الهزائم، وأن البنيان الذي أقام قواعده في فرنسا بقوة عزيمته وصدق بلائه أخذ ينهار، وأكبر ظني أن نابليون لن يقيم طويلا في مصر بعد أن وصلت إليه أنباء هذه الكوارث.
ثم أخذ يقرأ علي فقرات مما جاء بالجريدة فكان منها أن الفتن اشتدت بألمانيا والنمسا وإيطاليا، وأن السخط وبوادر الثورة على حكومة فرنسا عام شامل، وأن إنجلترا لا تفتأ تشن غاراتها على أملاك فرنسا بالبحار، وأنها اجتذبت إليها روسيا وتركيا فصارحتا فرنسا بالعدوان. وهنا قال محمود: إن خروج نابليون من مصر فرار من الميدان، واعتراف صريح بأن السيف والنار لا يستطيعان أن يملكا القلوب أو ينهنها من عزيمة أمة عزلاء أمضت إرادتها أن تعيش عزيزة لا تلين قناتها لغاصب، هذه الأخبار يجب أن يطلع عليها الشيخ السادات، فهلم بنا إليه.
الفصل العاشر
لقيت زبيدة من زوجها مينو أول الأمر شغفا وهياما وطرقا في الغزل وشكوى الصبابة لا عهد لها بها، فكان يجثو أمامها في ذلة واستعطاف كما يجثو الراهب في محرابه، ويتمتم في أذنها بأحاديث من الحب والوله تختلط بإشارات وحركات ينتفض لها قلب كل فتاة، وقد أتقن مينو هذا الفن بعد أن تدرب عليه طويلا في مجتمعات باريس، وكان كثير من شبان أوربا في هذا الحين الذي كثرت فيه الثورات، وخرجت فيه الأمم على كل قديم، وتغلب فيه المذهب الأبيقوري، يعدون إغراء المحصنات بأساليب الختل والكذب فنا رفيعا وثقافة عالية، لا يكمل الرجل بغيرها، فالذي لا يغازل أبله، والذي لا يستنزل فضيلة المرأة البتول من قمة قدسها إلى أسفل درك لا يعد رجلا كامل الذوق واسع العلم بالحياة، وكلما صعب نيل الفريسة زادت مهارة الصائد، وكلما مزقت الحجب كان العمل فتحا مبينا، وإذا تنافس فرسان العصور الوسطى في الشجاعة وإغاثة الملهوف والأخذ بيد الضعيف، فإن فرسان أوربا في هذا العصر كانوا يتنافسون في نصب الحبائل للغيد الفاتنات، ولقد سرى الداء إلى النساء فلم يعد الطهر طهرا، ولا العفاف عفافا، حتى إن المرأة كانت تباهي بكثرة عشاقها، وتحاول بكل وسائل الإغراء أن تزيد في عددهم، وفتحت الأبواب في كل قصر لتلاقي الأخدان واجتماع الخلان في جهر وعلانية، وأجاد الشبان دروس الغزل، وأعدوا لكل نوع من النساء نوعا خاصا منه، كأنهم باعة ثياب يبيعون لكل مستام ثوبا على قده، وقد قطعوا الصلة بين اللسان والقلب، وبين الوجه والضمير، فهم يتحدثون عن الحب وليس في قلبهم منه إلا فتكات اللص وشهوات البهيم، ويبكون في ضراعة ووجد وضميرهم يسخر ويقهقه من غرور المرأة وقرب وقوعها في الشرك.
ولكن مينو كان زوجا، عقد له على زبيدة بكتاب الله وسنة رسوله بعد أن أعلن إسلامه وسجله بالدفاتر، فلماذا يعصف به الحب ويدلهه الغرام، ومحبوبته بين ذراعيه، وهي له وحده لا يزاحمه في حبها مزاحم؟ ألأن النشوة الأولى بهرت الرجل ولعب بلبه ما رأى من زوجته من سحر وفتنة، وهو من أخبر الناس بفنون الجمال؟ أم لأن الرجولة كانت عاتية طاغية فلم يملك إلا أن يجد لما يجيش في نفسه متنفسا بالغزل وبث الغرام؟ أم لأن العادة جرفته فأخذ يكرر في بيت الحاكم برشيد تلك الدروس التي حفظها وأجاد إلقاءها في حفلات فرنسا؟
وكانت زبيدة بعد زفافها في بحر مائج مضطرب من الأفكار والهواجس، أترضى بما قسمه لها القدر، وتقنع بهذا الزوج الذي سيجلسها على عرش مصر، فتجزي زوجها حبا بحب؟ أم تسخط على صلة دفعها إليه أمل كاذب مغرر فتنكمش بقدر ما يحسن بها الانكماش، ولا تعطي هذا الفرنسي إلا ما تسمح به الفتاة الملول؟ لم يكن في الجنرال مينو شيء يغري المرأة بالرجل قط: وجه غليظ دميم القسمات ثقيل الملمح، وجسم بدين إلى القماءة أقرب، وكرش بارزة كأنها الزق المنتفخ، ثم هو وقد خطا نحو الخمسين لم يبق فيه مأرب للنساء ولو كان في جمال يوسف الصديق، فكرت زبيدة طويلا وقدرت طويلا، وسار بها الفكر في شعاب مترامية البعد كثيرة الالتواء، فجال بخاطرها محمود وما أنعم الله به عليه من كمال في الخلق والخلق، وجمال في النفس والجسم، ورجولة ناضجة تهوي إليها قلوب النساء، وعقل راجح يلعب بألباب الرجال، جال ذلك بخاطرها فثار حبها القديم، وهاجت عواطفها الكامنة، وتأججت بفؤادها نار من الوجد طالما أخمدتها بماء دموعها؛ لأنها لن تصل بمحمود إلى ما تريد من ملك مصر، ولأن حبه لا يحقق لها تلك الأحلام الذهبية التي منتها بها رابحة العرافة، وماذا تعمل وقد خلقها الله من آمال وطموح، وسلحها بعزيمة ماضية الحد ترد عنها كل ما يصدها عن هذه الآمال؟ محمود ريحانة قلبها ونور عينيها ومطمح غرائزها، وهي لو أرادت أن تعيش كمثيلاتها لم ترض به بديلا، ولنعمت في ظل حنانه بالحب والنشوة الحلوة والسعادة التي تصبو إليها كل فتاة، ولكنها لا تريد أن تكون كمثيلاتها ولو أحرق الوجد فؤادها، وجشمها إسكات غرائزها النهمة عناء طويلا، وأين الحب وأين لذته، وأين محمود وأين جهارته، من ملك سامق البنيان عزيز السلطان تعنو إليه الوجوه وتنحني الرءوس؟ هكذا مضت أيام زبيدة، وهي تفكر وتثير غبار الماضي، لا يمر بخاطرها ذكر محمود حتى تثور عليه حزينة متألمة، فإذا نسيته أو شغلها عنه شاغل حنت إليه وتشبثت بخياله تبثه وجدا متأججا وحبا كمينا، ولكنها أبت في النهاية على الرغم من طموحها وتضحيتها في سبيل هذا الطموح بكل غال، أن تمنح قلبها رجلا جر العار إليها وإلى أهلها، فقد فر أبوها من المدينة يوم خطبتها، وبخع الحزن نفس أمها أسفا، وجانبتها عشيرتها فأصبحت أشبه بأسيرة في جيش الأعداء، وإن أحاطت بها صنوف النعيم، ثم هزت رأسها في تصميم وقالت: محال أن يظفر هذا الفرنسي بحبي، وفي ذات صباح أطلت من نافذة قصرها فرأت الجنود والحراس وقد التفوا حول امرأة في ملاءة بالية، وهي تصيح في وجوههم وتقذفهم بأبلغ ما تضمنته معجمات العامة من شتائم، فأطالت زبيدة النظر فإذا هي رابحة العرافة، فأرسلت في عجل إحدى وصائفها لتأمر الجند بإدخالها، وبعد قليل دخلت رابحة وهي تصخب وتلعن، والنساء دائما أشد جرأة على الجنود الغزاة من الرجال؛ لأنهن يتسلحن بالضعف، ويملكن من وسائل التشهير والصراخ والولولة ما ليس في مكنة الرجال، دخلت رابحة على زبيدة مربدة الوجه، وبعد أن تنهدت طويلا، قالت: أسعد الله صباح الملكة. - الملكة؟ هكذا مرة واحدة يا رابحة؟ إن الفرنسيين لم يدعوا في مصر ملكا ولا ملكة ولا أميرا ولا أميرة. - نعم، ولكن كل هذا لن يحول دون أن تكوني ملكة، إن علمي لن يكذب أبدا، اللهم إلا إذا محيت خطوط كفك اليمنى. - وهل تمحى خطوط الكف؟ ليتها تمحى! - لن تمحى؛ لأنها صورة في كتاب القدر. - ولكن أين أنا الآن من هذا الملك الموهوم؟ وهل زواجي هذا الفرنسي يقربني خطوة إليه. - لا أدري؛ لأنني أعرف الغايات ولا أعرف الوسائل، وكثيرا ما دهشت لأعاجيب القدر، وكثيرا ما كتمت ما أراه من لمحاته حتى لا يسخر الناس مني، وكثيرا ما توقعني صناعتي في مشكلات يصعب منها المخرج، أذكر أني قبل أن يدخل الفرنسيون البلد بسنة واحدة كنت مارة بهذا القصر، وكان به عثمان خجا حاكم المدينة فوسوس إليه شيطانه وزين له غروره أن يدعوني لأبصر له كفه حتى يتسلى بالضحك مني والاستخفاف بتكهناتي، فدخلت عليه وهو متكئ في صلف وكبرياء على مقعد طويل، والجند حوله شاكو السلاح، والرهبة تطبق على أنحاء المكان، والشيخ البربير يحتال جهده على أن يستل ابتسامة خفيفة من بين شفتيه لكثرة ما يقص من نوادره المضحكة ونكاته البارعة. دخلت فلم أسلم عليه؛ لأن الدماء البريئة التي كان يريقها كل يوم ظلما، والأموال التي يغتصبها اغتصابا حبست لساني ودفعتني إلى ازدرائه واحتقاره، كيفما كانت سطوته وكيفما علا مقامه الزائف، وما أنا والخوف من سطوته، ونحن الضعفاء الفقراء قد حصننا الضعف وصد عنا الفقر يد الظالمين؟ دخلت فلم أسلم فجمجم الحراس مستنكرين في رياء وملق فلم أبال بهم، ثم قلت: ماذا تريد مني يا عثمان؟ أتريد أن أبحث في كفك عن مدينة أخرى تخربها بعد أن أتممت خراب رشيد؟ فنهرني سليم بك، وكان في المجلس، وهم بطردي، ولكن الشيخ البربير قال شيئا من الشعر معناه أن طنين الذباب لا يضير، وأن السحاب لا يضرها نبح الكلاب، وهو في قرارة نفسه يريد أن يذود عني هؤلاء الكلاب. فضحك الحاكم كأنه فهم الشعر، ومد إلي كفه قائلا: انظري يا محتالة لعلك ترين في كفي أني سآمر بقتلك. فنظرت في خطوط كفه وهالني ما نظرت! رأيت خطا فيها لا يظهر إلا في كف من يموت مصلوبا، فوجمت وتمتمت، وترددت بين الصراحة وفيها الضرب والهوان أو الموت، والمداجاة وفيها الخلاص من براثن هذا الأحمق. ولكني عاهدت الله وعاهدتني أمي أن أكون أمينة على علمي، فرفعت رأسي في اعتزاز وجرأة وقلت: أيها الحاكم إنك ستموت، فضحك من بالمجلس وصاح الشيخ البربير قائلا في سخرية مصنوعة: أفادك الله يا رابحة! ما كنا نظن أن أحدا مخلدا في الأرض: و
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
Неизвестная страница