ولم يكونوا قد رأوه ماشيا قبل ذلك، فعجبوا من نشاطه وخفته، وقال عبد الرحمن: كنت قد حسبته لأول وهلة شيخنا الناسك، ولكنني اشتبهت في أمره لما عاينت من نشاطه وسرعة جريه، فإني لا أرى قامته محدودبة كما كنت أتوقع أن تكون بعد أن رأيناه في ساحة الدير.
فقال عامر: لا أظن سبب هذا النشاط إلا اقتصاره على أكل الفاكهة والخضر دون اللحوم، على أنني أستغرب خروجه في هذا الليل، وأخشى أن يكون قد رآنا تحت الجوزة، أو لعله سمع كلامنا أو اطلع على شيء من أمرنا.
قالت سلمى: لو كان قد مر بنا لرأيناه أو سمعنا خطواته، فقد كان السكوت سائدا وضوء القمر ساطعا، ولكنني أظنه كان يجول في الغوطة يتناول الثمار كما حكى لنا الرئيس عن غرابة أخلاقه وبداوة معيشته.
وفيما هم يتهامسون كان الشيخ قد أدرك باب البستان وعالجه بأداة في يده حتى انفتح، فدخل ووقف ينتظر وصولهم، فاستغربوا غايته من ذلك، ولم يفهموا السبب الذي حمله على هذا العمل، وحملوه على غرابة أخلاقه، وبخاصة بعد أن دخلوا الباب وحيوه فلم يرد التحية، بل أسرع إلى باب الدير فقرعه حتى أفاق أحد الرهبان ففتح له، فدخل ودخلوا هم في أثره، ثم اختفى ولم يعودوا يشاهدونه كأنه كان ظلا وزال.
وأما هم فأسرعوا إلى غرفتهم يلتمسون المنام بعد المشقة والسهر الطويل، ولكنهم بالرغم من تعبهم لم تغمض أجفانهم إلا قبيل الفجر لما ثار في خواطرهم تلك الليلة. •••
على أنهم لم يكادوا ينامون حتى أفاقوا على ضوضاء الرهبان في ساحة الدير، فنهضوا مذعورين، وخرج عامر للبحث عن السبب ثم عاد وأمارات الدهشة بادية عليه، فابتدرته سلمى بالسؤال عن سبب دهشته، فقال بصوت خافت: إن أهل الدير يستعدون لاستقبال يزيد بن معاوية.
فبغت عبد الرحمن وقال: يزيد؟! وكيف يستقبلونه؟! ولماذا؟
قال: لأنه ذاهب إلى الصيد في هذا الصباح، ومن عاداته إذا مر بهذا الدير أن يستريح ساعة ثم ينصرف.
ولم يتم عامر كلامه حتى اختلج قلب عبد الرحمن بفعل البغتة، دون أن يداخله شيء من الخوف. وأما سلمى فقد كان أثر هذه المفاجأة فيها أكبر منه في عبد الرحمن، بنسبة ما بين الرجل والمرأة من دقة الشعور، ثم قال عبد الرحمن: هل أنت واثق يا عماه مما تقول؟ وهل نرى يزيد في هذا الدير اليوم؟
قال: ليس نزوله هنا أمرا محتوما، لكنه خارج إلى الصيد لا محالة، وسيمر من طريق بقرب هذا الدير، ويغلب على الظن أنه يعرج عليه هنيهة؛ لأنه يعرف رئيس الدير ويحترمه، والرئيس يعد مائدة من الفاكهة والأشربة، فإذا شاء أقام أو ظل سائرا في طريقه.
Неизвестная страница