فسكتوا برهة وهم ينظرون إلى ما حولهم، فإذا بالمكان قفر خال، لا يسمع فيه غير خرير السواقي عن بعد ونقيق الضفادع، وقد وقعت ظلال تلك الجوزة على ما حولهم فأووا إلى الظل بجانب القبر، وجلسوا على التراب وسلمى جاثية وعيناها تدمعان، وهي صامتة تتطاول بعنقها وتنتظر ما سيقوله عامر.
الفصل الرابع
مقتل حجر بن عدي
جالس عامر جاثيا أمام قبر حجر، وبدأ بتلاوة الفاتحة واستغفر الله ثم افتتح الحديث قائلا: اعلمي يا سلمى أن أباك صاحب هذا القبر كان من أقوى أنصار الإمام علي، وقد حارب معه حروبا كثيرة وجاهد معه بسيفه ولسانه جهادا حسنا إلى آخر نسمة من حياته، فلما قتل الإمام علي وصار أمر الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان في دمشق ظل أبوك وغيره من العلويين على مبدئهم بين مجاهر ومستتر، وكان أبوك يقيم بالكوفة مع قومه ينادي بحبه عليا على رءوس الأشهاد، ولكن سلطان معاوية ما لبث أن استفحل، وكان كما تعلمين قد جعل ديدنه الحط من كرامة علي وجميع أهل البيت، فكان يأمر الناس أن يلعنوه، فمنهم من يطيع خائفا ومنهم من لم يكن يفعل، وفي مقدمة هؤلاء أبوك حجر وبعض رفاقه. حتى إذا كان سنة 51 للهجرة بعث معاوية إلى الكوفة عاملا اسمه المغيرة بن شعبة وأوصاه حين بعثه قائلا: «أما بعد، فإن لذي الحلم قبل اليوم تقرع العصا، وقد يجزئ عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك، ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم.» فقال له المغيرة: «قد خرجت وجربت وعملت قبلك لغيرك فلم يذمني، وستبلو فتحمد أو تذم.» فقال معاوية: «بل نحمد إن شاء الله.» فأقام المغيرة عاملا على الكوفة وهو لا يدفع شتم علي والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له، فكان أبوك إذا سمع ذلك قال: «بل إياكم من دم علي ولعنه!» ثم يقول: «أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تشكرون أولى بالذم.» فيقول له المغيرة: «يا حجر، اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك.» ثم يكف عنه ويصفح، فلما كان آخر إمارة المغيرة قال في علي وعثمان ما كان يقوله فقام أبوك وصاح فيه صيحة سمعها كل من في المسجد وقال: «مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا، فقد حبستها عنا وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين.» فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: «صدق حجر وبر، مر لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعا.» وأكثروا من هذا القول وأمثاله، فنزل المغيرة فدخل عليه قومه وقالوا: «علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيسخط عليك أمير المؤمنين معاوية؟» فقال لهم: «إني قد فتنته؛ سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي، فيصنع به ما ترونه يصنع بي، فيأخذه ويقتله. إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار هذا المصر فيسعدون وأشقى، ويعز في الدنيا معاوية ويشقي في الآخرة المغيرة.»
ثم توفي المغيرة، وولي الكوفة زياد ابن أبيه المشهور بدهائه ومكره، فقام في الناس فخطبهم عند قدومه، ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه، فقام أبوك ففعل كما كان يفعل بالمغيرة، فكظم زياد، حتى إذا عزم على الفتك به دخل المسجد وصعد المنبر يوما فحمد الله وأثنى عليه، وأبوك جالس، ثم قال: «أما بعد، فإن غب البغي والغي وخيم، إن هؤلاء جمعوا فأثروا، وأمنوني فاجترءوا على الله، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأجعله نكالا لمن بعده، ويل لك يا حجر، سقط العشاء بك على سرحان.» ثم أرسل إلى أبيك يدعوه وهو بالمسجد، فلما أتاه رسول زياد قال لأصحابه: «لا نأتيه ولا كرامة له.» فرجع الرسول فأخبر زيادا فأمر صاحب شرطته، وهو شداد بن الهيثم الهلالي، أن يبعث إليه جماعة ففعل، فسبهم أصحاب أبيك، فرجعوا وأخبروا زيادا.
فلما رأى زياد امتناع أبيك بأهله وأصحابه احتال بشتى الحيل حتى تمكن من القبض عليه خدعة. وذلك أن بعض أصحاب أبيك استأمنوا زيادا على أن يرسله إلى معاوية في الشام، فأمنه زياد، وأرسلوا إلى أبيك فجاء زيادا، فلما رآه قال: «مرحبا بك أبا عبد الرحمن، أحرب أيام الحرب؟ وحرب وقد سالم الناس؟! على أهلها تجني براقش.» فقال أبوك: «ما خلعت الطاعة، ولا فارقت جماعة، وإني على بيعتي.» فأمر به إلى السجن، فلما ذهب قال زياد: «والله لأحرصن على قطع رقبته.»
ثم جد زياد في طلب أصحاب أبيك فهربوا، فأخذ كل من قدر عليه منهم، وجاء بعض الوشاة إلى زياد فقالوا له: إن رجلا هنا يقال له صيفي من رءوس أصحاب حجر، فبعث زياد فأتى به وقال له: يا عدو الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب. فقال: ما أعرفك به! أتعرف علي بن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: فذاك أبو تراب. قال: كلا، ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له: صاحب الشرطة يقول هو أبو تراب وتقول لا؟! فقال: أفإن كذب الأمير أكذب أنا، وأشهد على باطل كما شهد؟ فقال له زياد: وهذا أيضا؟ علي بالعصا، فجاءوا بها، فقال: ما تقول في علي؟ قال: أحسن قول. قال: اضربوه! فضربوه حتى لصق بالأرض، ثم قال: أقلعوا عنه. ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي ما قلت فيه إلا ما سمعت مني. قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك. قال : لا أفعل. فأوثقوه حديدا وحبسوه، وإني والله لم أر أشجع منه إلا أبوك، رحمهما الله.
ثم جمع زياد اثنى عشر رجلا اتهمهم بالدعوة لعلي، وأشهد شهودا أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة معاوية ودعا إلى حربه، وأنه قال: «إن هذا الأمر لا يصلح إلا في أبناء أبي طالب.» وأنه وثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه، وأن هؤلاء الاثني عشر معه هم أصحابه على رأيه، ثم دفع زياد أباك وأصحابه إلى اثنين من خاصته وسلمهما تلك الشهادات وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام.
فساقاهم من العراق حتى انتهيا بهم إلى هذا المكان، وهو مرج عذراء، فأبقياهم وسارا إلى دمشق، فدخلا على معاوية وعرضا عليه الكتب التي كانت معهما، واتفق أن كان في مجلس معاوية أناس استوهبوه ستة من رفاق أبيك فوهبهم إياهم، وبعث أناسا إلى هذا المرج فوصوا إليه في المساء في مثل هذا الوقت. •••
وكنت قد صحبت الجماعة من الكوفة ومكثت عن بعد أنتظر ما سيكون، فلما رأيت القادمين من دمشق ومعهم الأسلحة والأنطاع، علمت أنهم قادمون ليقتلوه وأصحابه، ولم أكن أعلم أن معاوية وهب ستة منهم، فدنوت عند ذلك من أبيك فلما بصر بي دعاني إليه وقال لي قولا لا أنساه عمري، وكأني به قد تحقق دنو الأجل فقال: إني أوصيك يا عامر بوليدتي سلمى، احتفظ بها ما استطعت، ولا تزوجها إلا بابن عمها عبد الرحمن، ولكن لا تفعل ذلك إلا بعد موت معاوية هذا، فإذا مات وعاد أمر الخلافة شورى للمسلمين، فإنهم يولون الحسين لا محالة، فإذا وليها فهو ينتقم لنا إن شاء الله، ولم يكد أبوك - وا أسفي عليه - يتم كلامه حتى وصل القادمون من عند معاوية، فاستقدموا أباك وستة من رفاقه وقالوا لهم قبل القتل: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، فقالوا: لسنا فاعلي ذلك. فأمروا فحفرت القبور وأحضرت الأكفان، وقام أبوك وأصحابه يصلون عامة الليل، فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم، فقال لهم أبوك: «اتركوني لأتوضأ وأصلي، فإني ما توضأت ولا صليت.» فتركوه فصلى، ثم قال: «والله ما صليت صلاة قط أخف منها، ولولا أن تظنوا في جزعا من الموت لاستكثرت منها.» ثم قال: «اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، والله لئن قتلتموني بها فإني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها.» ثم مشى أحدهم إليه بالسيف فارتعد رحمه الله، فقالوا له: زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك، فقال: «وما لي لا أجزع وأنا أرى قبرا محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا؟! وإني والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب.» فقتلوه - وا لهفي عليه - وقتلوا ستة من رفاقه، ثم صلوا عليهم ودفنوهم في هذا المكان، وهذا هو قبر أبيك رحمة الله عليه، وخرجت أنا إلى الكوفة ثم قمت بكفالتك وربيتك أنت وعبد الرحمن.
Неизвестная страница