قال: سنسير بضعة أيام نحو الجنوب حتى نقبل على بصرى مدينة الروم ومركز تجارة بلاد العرب، فسكتت ولم تجب.
فقال لها: امكثي هنا ريثما أعود إليك.
ثم تركها ومضى، وعاد بعد قليل ومعه جراب فيه زاد وفاكهة وقال: هذا طعام يكفينا يوما كاملا ورزق الغد إلى الغد. •••
وبعد أن سارا بضعة أيام سيرا بطيئا أشرفا قرب العصر على مدينة بصرى (وهي غير البصرة في العراق)، وكانت سلمى قد تعبت واستوحشت وتغيرت حالها ولم تذهب صورة عبد الرحمن من ذهنها، وإن لم تر سبيلا إليه لأنها لا تعلم مقره، ولكنها كانت قد استسلمت إلى الشيخ الناسك لاعتقادها أنه إنما يسير بها إلى الخير، وأنه ذو كرامة ولا يخطو خطوة إلا لغرض فيه نفع لها.
فلما أطلا على بصرى وهي من أكبر مدن حوران في ذلك العهد، انبهرت سلمى لعظمها وعمرانها وخصبها وسط تلك البلاد الجرداء التي يندر فيها الشجر، ورأت خارج المدينة من جهة الغرب بحرا لامعا بما ينعكس عنه من أشعة الشمس، فسألت الشيخ الناسك عنه فقال: ما هو بحر يا بنية، وإنما هو حوض كبير يخزن البصريون مياههم فيه إبان الشتاء ليستقوا منها في الصيف، وهو خزان للمياه طوله نحو 1200 ذراع وعرضه 500 ذراع، وكان لبصرى أحواض أخرى تهدمت.
ثم قال: إن بصرى مدينة قديمة عاصرت دول اليهود فاليونان فالرومان، وفيها أبنية رومانية ويونانية وسريانية.
فالتفتت سلمى إلى تلك المدينة والشيخ واقف بجانبها، فإذا هي بديعة الانتظام يكتنفها سور يزيد محيطه على أربعة أميال، ويحيط بالمدينة غياض وبساتين بها أنواع الأشجار والثمار، ووراء ذلك سلاسل جبال حوران ممتدة على عرض الأفق، ورأت لون أبنية المدينة مغبرا كأنها تلوثت بالدخان فقالت: وما الذي غير لون هذه الأبنية؟
قال: ذلك هو لون أحجار هذه البلاد، فإن فيها حجرا أسمر يسمونه الحجر الحوراني، هذا لونه، ومما يزيدك عجبا أن أبينة حوران لا يدخل في بنائها شيء من الخشب، وإنما هم يصنعون سقف بيوتهم وأجنحة أبوابها ونوافذها من الحجر الصلد.
فاشتاقت سلمى إلى النزول للمدينة لمشاهدة أسواقها، فقال لها الشيخ: إذا أردت النزول إليها فما أنا نازل معك؛ لأني كما قلت لك لا آوي المدن ولا أمر بها، ثم إني أعرف هذه المدينة كما أعرف بيتي؛ فقد زرتها غير مرة وأنا شاب وكنت على دين النصرانية، وزرت كنائسها وحمامتها وشوارعها وقصورها فإذا هي من أعظم المدن، وربما سنحت لك الفرصة بعد حين بمشاهدتها، أما الآن فتعالي معي إلى الدير.
فلما سمعت قوله أنه كان على دين النصرانية في شبابه تفرست في سحنته فرأته يشبه أن يكون كنديا من قبيلة أبيها؛ لأن كندة كانوا نصارى حتى جاء المسلمون بلادهم فاعتنقوا الإسلام، وزادها ترجيحا لذلك ما رأته من غيرته على أبيها والانتصار لبيت علي، ولم يزدها كل ذلك إلا حيرة وشكا، وهي مع ذلك لا تستطيع مخاطبة الشيخ في هذا الموضوع لئلا يغضب، فلم تر خيرا من الصبر حتى يتأتى لها استطلاع الحقيقة.
Неизвестная страница