وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فترددت سلمى بين أن تتحول إلى الدير أو تسير إلى قبر أبيها، وساقتها قدماها إلى تلك الجوزة وهي لا تشعر، فلما أطلت على المكان وقد غابت الشمس سارعت إلى القبر وألقت بنفسها على التراب وأخذت في البكاء والنحيب وهي لا تبالي بما يتهددها من الظلام المقبل، وما زالت تبكي حتى بللت ذلك التراب وجعلت تندب أباها بصوت قد أضعفه التعب وتقول: ويلاه يا أبتاه! قم وانظر إلى فتاة خلفتها وخلفت لها الشقاء، وحملتها فوق ما تحملته النساء! شببت وشب معي حب الانتقام، ولكن وا أسفاه لم أجد إلى الانتقام سبيلا. قم وانظر ما جرى. انظر إلى فتاة عاشت يتيمة حزينة لم يكن لها من معدات الحياة إلا حبيب يحبك، وقد بذل نفسه من أجل الانتقام لك، ولكنه وا لهفي عليه! لا أرى ما آل أمره إليه. آه! من ينبئني ببقائه حيا فأسعى إليه! ولكن أنى له الحياة وقد كتب القتل على الصالحين والأبرياء؟! هل خطر لك يا أبتاه وأنت على قيد الحياة أن الناس سينقمون على الحسين ابن بنت الرسول ويقتلونه، ويحملون رأسه من الكوفة إلى الشام؟ •••
وفيما هي في تلك الحال وقد أمسكت تنفسها لئلا يكدر ذلك السكون، وأصبحت كالجماد لفرط خوفها ووحشتها، سمعت سعالا قويا، فوثبت بالرغم منها وصاحت صيحة الرعب، ولم تكد تتحقق جهة الصوت حتى رأت شبحا قادما إليها من وراء شجرة بالقرب من الجوزة، فصاحت: ويلاه! من أنت؟ أمن الجن أم من الإنس؟ خف الله وابتعد عني.
ولم تتم كلامها حتى سمعت قائلا يقول: لا تخافي يا سلمى، لا تخافي.
فتبادر إلى ذهنها لأول وهلة أن أباها قام من القبر، فوقف شعرها واقشعر بدنها.
ثم دنا الشبح منها فإذا هو الشيخ الناسك، فلما عرفته وقعت مغشيا عليها، فأنهضها وجعل يروح لها بيديه حتى أفاقت فقال لها: سامحيني يا سلمى على هذا السعال، فقد حدث بالرغم مني، وما كنت لأزعجك إلا مكرها، فتشددت وجلست وهي تقول: أين عبد الرحمن؟ قل لي أيها الشيخ أين هو ؟ وإلا فادفني هنا في هذا التراب الآن.
فلم يجبها الشيخ إلا بالبكاء بصوت عال وكأنه أصيب بجنة، وتركها وجعل يحثو التراب على وجهه ويبكي بكاء الطفل ويقول: يا حبيبي يا حجر، مت في سبيل نصرة الإمام علي، قم فانصر ابنه، بل قم فابكه وابك أولاده وسائر أهله، فقد ماتوا جميعا! هنيئا لك أنك جالس معهم الآن في دار البقاء.
فلما سمعته يقول ذلك ورأت حاله، نسيت نفسها وتذكرت ما سمعته منه ليلة مقتل الحسين في كربلاء، فازدادت حيرتها وودت لو عرفت ما بعثه على ذلك، فقالت: من أنت أيها الشيخ. قل لي وفرج كربي؟
فلما سمع كلامها تغيرت حاله وسكت، كأنه ندم على ما فرط منه، ثم تجلد وقال لها: إنك تسألينني عن أمر ليس من شأنك يا سلمى. اسكتي وابكي ما شئت، وإذا شئت أن تعلمي من هو الشيخ الناسك فسوف تعلمين. ستأتي ساعة ينكشف لك فيها أمره، وأرجو ألا ينكشف إلا كما يريد هو.
فسكتت سلمى وخافت أن يبدو منه ما لا تريده، ثم أرادت أن تغير مجرى الحديث فقالت: أخبرني أين عبد الرحمن، أحي هو كما قلت لي؟
قال: لا أعلم، ولو لعلمت ما كنت لأقول لك؛ لأنك لا تصغين إلى قولي.
Неизвестная страница