صعد رئيس الرهبان على السلم الحجري داخل الدير، وفي يده درج يقرأ فيه، حتى دخل عليته فاتكأ واستغرق في القراءة، إلى أن انتبه لجعجعة جمال تدنو من الدير، فنادى قيم الدير - وكيله - وكان كهلا قوي البنية ممتلئ الجسم جاء الدير من عهد قريب، فلما وقف بين يديه قال له : إني أسمع جعجعة ، فأشرف على الطريق واستطلع خبر القادمين، فأطل القيم من بعض جوانب السطح ثم عاد وهو يقول: رأيت جمالا محملة، وأناسا يظهر من لباسهم أنهم من العراق.
فقال: أظنهم من القافلة التي تبصرتها عن بعد في هذا الصباح، وقد جاءوا إلينا فلا بد لنا من القيام بضيافتهم.
قال القيم: وما الذي يدعونا إلى ذلك وهم غرباء لا نعرفهم؟! أما كفانا ما نقدمه من غلاتنا وثمارنا لرجال الحكومة؟! إذا نزلوا عندنا أنزلناهم ساعة ريثما يستريحون ثم ينصرفون.
قال: إذا أرادوا الانصراف انصرفوا ولا حرج عليهم، وأما إذا آثروا البقاء فلا مندوحة عن القيام بضيافتهم، عملا بالعهد الذي بيننا وبين خلفائهم.
ولم يكن القيم قد سمع بذلك العهد، فقال: وما هو هذا العهد؟
قال: هو عهد أخذ على النصارى منذ الفتح يقضي عليهم بأمور كثيرة منها أن يقوموا بضيافة المسلمين ثلاثة أيام، يخدمونهم ويقدمون لهم كل ما يحتاجون إليه، وهب أنه لم يكن هناك عهد، أيليق بنا إذا نزل عندنا ضيف إلا أن نكرمه حتى يرحل، ولو أقام سنة؟
فخجل القيم وأراد أن يعتذر، فسمع صوت الناقوس، فقال الرئيس: لقد صدق ظني فاستقبل الضيوف ورحب بهم، وعد إلي بعد أن تئويهم في أماكنهم.
فبعث القيم أحد الرهبان الصغار ليفتح له باب البستان، ووقف هو بباب الدير ينظر إليهم وهم مقبلون، فإذا هم ثلاثة قد تزمل كل منهم بعباءة، وعلى رأسه الكوفية مشدودة بالعقال تغطي وجهه، ومعهم بضعة جمال تحمل أجربة مملوءة تمرا جافا، ويدل ظاهرهم على أنهم من تجار العراق، ولعلهم جاءوا بهذه الأحمال ليبيعوها في دمشق، ولما دنوا من باب الدير تبين الوكيل مما بدا من وجوههم أن بينهم فتاة في مقتبل العمر فاشتبه في أمرهم، وقال في نفسه: لو كانوا قادمين للاتجار لما كان ثمة داع لمجيء تلك الفتاة معهم، فلما بلغوا الباب خف لاستقبالهم، وخاطب بعض الخدم باليونانية أن يأخذوا الجمال إلى الحظيرة للعلف، واستقبل الضيوف مرحبا بهم بلغة عربية مستعجمة لحداثة عهده بالشام، فدخلوا جميعا وهو يتقدمهم، وكان أحدهم طويلا فلم يستطع الدخول من باب الدير إلا مطأطئا رأسه، فمروا في الطرقة الضيقة حتى انتهوا إلى الباب الآخر ومنه إلى ساحة الدير حيث الصفصافة والبئر.
الفصل الثالث
غادة كربلاء
Неизвестная страница