فقالت طوعة: ولكنني سمعت في هذا الصباح أنك جمعت ثمانية عشر ألفا وأحطتم بقصر زياد وهو ليس عنده إلا ثلاثون رجلا، فما الذي جرى لقومك؟
قال وهو يحرق أسنانه: لقد تفرقوا عني.
قالت سلمى: كيف تفرقوا؟ وما الذي حملهم على هذا التفرق وهم كثيرون؟
قال: لا تسألي عن القضاء إذا وقع. إن أهل الكوفة قوم لا يركن إليهم، وقد أخطأنا بالاعتماد عليهم بعد أن سمعنا عمي الإمام عليا كرم الله وجهه يخاطب أهل العراق بقوله: «أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق. المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه.» فقد غرني من هؤلاء الأقوام ما رأيت من إقبالهم على بيعة الحسين حتى تكاثر عددهم، فلما دعوتهم في هذا الصباح اجتمعوا وتجندوا، حتى قلت: توليتها يا ابن بنت بن الرسول، ولكن ابن مرجانة - ابن زياد - داهية مثل أبيه، فلما رأى رجالنا محيطين بقصره، وقد امتلأ المسجد والسوق بالناس، وسمع جماعة يسبونه ويسبون أباه، دعا بعض رجاله وفيهم بعض أشراف القبائل وأمرهم أن يخرجوا إلى الأسواق ويخذلوا الناس بالتهديد والوعيد أو بالوعد، وأطمعهم بالمال وغيره، فخرجوا يخذلون الناس، وأمر آخرين أن يشرفوا من نوافذ قصره علينا ويؤملوا أهل الطاعة ويخوفوا أهل المعصية، فأشرفوا علينا وجعلوا ينادون بالأمان لمن أطاع وبالشر لمن عصا، فما شعرت إلا والناس يتفرقون عني ولم يبق معي منهم إلا ثلاثون رجلا، فدخلنا المسجد، ثم رأيت في البقاء هناك خطرا على حياتي فخرجت هائما لا أدري إلى أين أسير حتى وصلت إلى هذه الدار، وأنا لا أبالي الآن أموت أو أحيا، ولكنني أخاف على ابن عمي الحسين؛ لأني كتبت إليه ليجيء، وأظنه قادما وهو يحسب أهل الكوفة جميعهم على دعوته، وهم على ما رأيناهم فيه من الضعف، ثم تنهد وقال: والله إن عبد الله بن مطيع قد نصح ألا نقرب الكوفة، وقد قال للحسين لما خرج من المدينة: جعلت فداءك أين تريد؟ قال: أما الآن فمكة، وأما بعد فإني أستخير الله قال: «خار الله لك وجعلنا فداءك، فإذا أتيت مكة فإياك إن تقرب الكوفة؛ فإنها بلد مشئومة؛ بها قتل أبوك، وخذل أخوك واعتل بلعنة كادت تأتي على نفسه. الزم الحرب فإنك سيد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله لئن هلكت لنتفرقن بعدك.» فما كان أجدرنا أن نصغي لقوله، ولكن قد نفذ السهم، ولا خيرة في الواقع.
وفيما هو يتكلم دخل بلال ابن طوعة، وهو شاب في مقتبل العمر، فلم تعرفه سلمى ولا مسلم، وأسرعت أمه إلى استقباله وهي تريد أن تفي أمر مسلم عنه، ولكن الشاب لم يسكت عنها حتى أخبرته بخبر مسلم، وطلبت إليه أن يكتم أمره وأخذت عليه الأيمان، فسكت وهو يضمر السوء، وبات تلك الليلة ومسلم هناك، وأما سلمى فإنها باتت منقبضة النفس وقد أسقط في يدها وتحققت الفشل، ففكرت فيما ينبغي أن تفعله، فاعتزمت أن تسعى أولا في سلامة الحسين بأن تسير لملاقاته في الطريق وتقص عليه الخبر وترجعه عن الكوفة حتى يقضي الله بما يشاء. •••
لما أقبل الصباح أفاقت طوعة فلم تجد ابنها فظنته خرج لعمله، وأفاق مسلم فجاءته سلمى وعرضت عليه أن تسير هي بنفسها لإبلاغ الحسين الخبر، فأعجب بحميتها وقال لها: والله لو أن في رجالنا عشرة مثلك ما أصابنا ما أصابنا، بورك فيك يا بنية، إننا إذا احتجنا إلى إرسالك أرسلناك، ولكنني لا أرى فائدة من بقائي هنا فأذهب بنفسي.
فتنهدت سلمى وتذكرت مصائبها وما ألم بحبيبها في سبيل ذلك الأمر، فغلب عليها الحزن، ولكنها تجلدت رغبة في تشجيع مسلم.
ولم تمض برهة حتى سمعوا وقع حوافر حول الدار، وعلت الضوضاء، فأجفل مسلم وامتقع لونه، فلما رأت سلمى ذلك فيه خرجت تنظر ما أثاره فرأت فرسانا رجالا يزيد عددهم على السبعين، وفي مقدمتهم شاب شاكي السلاح وعليه الدرع، فعلمت أنه زعيم القوم، فلما استقبلتهم صاح فيها الفارس قائلا: أين مسلم؟ فليخرج إلينا الساعة.
قالت: وماذا تريدون منه؟
قالوا: مالك ولهذا التطفل؟! أين مسلم بن عقيل؟
Неизвестная страница