وكانت قد علمت من قرائن الأحوال أنهم سائرون بها إلى الكوفة، وأن الحسين سائر إليها أيضا، والناس في الكوفة على دعوته، فتوسمت في البقاء خيرا، وأملت أن تنتقم لأبيها وخطيبها، فجعلت تتناول من الطعام والشراب ما تسد به رمقها.
وكان عبيد الله في أثناء مسير الركب يتردد على سلمى، تارة يستعطفها ، وطورا يهددها، وآونة يؤملها وأخرى يخوفها، وهي ترفض رفضا باتا، وكثيرا ما كانت تسمعه كلاما مؤلما، وهي تعلم أن الجفاء لا يجديها نفعا، وأنها لو عاملته بالحسنى واستخدمت اللين والدهاء لنالت بغيتها. ولكنها لم تكن تستطيع التغلب على أنفتها، وكانت من الجهة الأخرى تخاف إذا لاينته أن تطمعه فيما تخافه وتنفر منه.
قضت في مثل ذلك خمسة أيام والركب سائر في الصحراء، في أرض لا عمارة فيها ولا مياه إلا بعض الآبار، وسلمى تشغل نفسها في أثناء الطريق بالإشراف من الهودج على ما يحيط به من السهول القاحلة والرمال الحمراء، على أنها كثيرا ما كانت تتحاشى شق الستور فرارا من الرياح الحارة وما تحمله من الرمال.
وفي صباح اليوم الخامس. اخترقوا بقعة منبسطة أدهشها منظرها حتى نسيت ما هي فيه، وكانت مساحة البقعة بضعة أميال، وقد غطتها أبنية خربة وفيها الجدران العالية والأساطين الشامخة والأسوار الغليظة بين متهدم ومتداع، وقد استولى عليها السكون وتمكن منها الخراب كأنها جثث بالية أو عظام أكلها الدود، على أن حجارتها كانت تنطق بأجلى بيان عما كان هنالك من العظمة وشدة البطش في قديم الزمان.
تلك خرائب تدمر الطائرة الصيت، تدمر العظيمة التي زهت في أوائل النصرانية وسار بذكرها الركبان، وقد كانت واسطة عقد التجارة بين العراق والشام، حتى إذا تداعت إلى الخراب جعلوها محطا للقوافل فيما بين هذين البلدين.
عمرت تدمر في أوائل القرن الثاني للميلاد على أثر سقوط دولة الأنباط شمال جزيرة العرب وغربيها، فاستولى عليها الرومان سنة 130م، فازدهرت تجارتها، وكانت مستقلة بشرائعها وأحكامها، يتولى النظر في شئونها مشيخة من أهلها، ومد الرومان بينها وبين دمشق طريقا تسير فيه المركبات وعليها أصناف التجارة من الأنسجة والآنية والمئونة، وبنى التدمريون في مدينتهم أبنية ينسب إليها، أقاموها على الأساطين المنحوتة وفوقها التماثيل من الحجر الأبيض المحمر. وكان يقطع المدينة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي طريق واسع في أوله قوس نصر بجانب هيكل هائل يعرف بهيكل الشمس أشبه شيء بهيكل بعلبك، وطول هذا الطريق ألف وثلاثمائة متر، تحف به الأعمدة من الجانبين في رواقين عدد أساطينهما ألف وخمسمائة، ولونها أبيض مائل إلى الحمرة، وفي الأروقة مساطب مستطيلة كانوا يسندون إليها الأحمال الواردة إلى تدمر من أقاصي المعمورة وفيها أحمال الحرير والديباج الدمشقية، والآنية اليونانية، وجلود الماشية المحمولة من جزيرة العرب على جمال يسوقها بدو من أهل الحجاز، وأحمال من جرار صنعت بفلسطين، وكانت أسواق تدمر في ذلك العهد تعج بالمارة عجيجا، وهم أخلاط من الأمم المتمدنة، وفيها النخاسون من مصر وآسيا الصغرى، والتجار من الفرس والشام وأرمينيا، والمرابون والصيارف من اليهود. فضلا عن الباعة الذين يحملون سلعهم على أكتافهم ينادون عليها في الدروب والحارات، فتختلط أصواتهم بنداء باعة الملح، الذي كان من أعظم تجارات هذه المدينة.
ولو أتيح للقارئ أن يزور تلك المدينة في أيام مجدها على عهد الملكة زينوبيا في القرن الثالث للميلاد، لبهره ما كان فيها من دلائل الترف والبذخ، وعلم من الفرق البعيد بين قصورها وأكواخها أن الثروة كانت منحصرة في فئة من أهلها، وأن تمدنها كان شرقيا لا رومانيا ولا يونانيا، وكان التدمريون تشهبوا بقدماء المصريين في استبقاء مجدهم بعد موتهم، فبنوا لأنفسهم قبورا كالقصور شادوها بالأحجار الهائلة في أكناف المدينة فكان مدينة أخرى سكانها من الأموات، ولو بعث التدمريون بعد ذلك ببضعة قرون لرأوا قصورهم أشد وحشة من قبورهم.
اشتهرت تدمر في أواسط القرن الثالث للميلاد بالملكة زينوبيا، فطمع فيها الرومان في الغرب، والفرس في الشرق، وقامت الحب سجالا بينهما حتى تغلب الرومان فملكوها، ولكنها لم تدم لهم ولا لغيرهم، فلم تمر بها أجيال حتى أصبحت في زوايا الإهمال، وتحولت قصورها إلى خرائب وصارت هياكلها جحورا للضب والحية وأوكارا للطير، ونعق على منابرها البوم بدل خطابة الخطباء ووعظ الوعاظ.
ولو عقل ابن زياد يوم أشرف على تلك الخرائب، وعرف تاريخ تلك الآثار لعلم مصير الإنسان، وأنه لا يبقى له من مجده إلا ما كسبت يداه من خير أو إحسان، وقال مع الإمام علي : «الدنيا دار أولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.» ولخجل ما ارتكبه هو وولي أمره من ضروب العسف، وهان عليه أن يطلب سراح أسيرته شفقة على صباها ورحمة بما في قلبها من لوعة الحزن على أبيها وخطيبها.
ولكنه جهل ذلك أو تجاهله، واندفع في تيار الشهوات، ولم يزدد في تلك الخلوة إلا قسوة، ولم يعد يصبر على نيل بغيته حتى يصل إلى الكوفة، فأمر بحط الرحال ونصب الخيام، فنصبوها على مرتفع يشرف على تلك الخرائب الناطقة وفيها بقايا الأسواق والهياكل والقصور والقبور، وأمر أن يقيموا هناك يوما كاملا يستريحون فيه ثم يرحلون، وأناخ هودج سلمى في مكان منفرد عن معسكره بقرب هيكل الشمس، وشغل أعوانه بإنزال الأحمال ثم مشى هو إلى سلمى وكانت جالسة كئيبة تتأمل في حالها وتصبر نفسها إلى بلوغ الكوفة، ولم يخطر ببالها ما نواه ابن زياد، فلما وصل إلى خيمتها أمر الحراس أن يبتعدوا، ثم دخل فوجدها جالسة على بساط وقد أثر السفر والتعب والحزن في جسمها فهزلت وامتقع لونها ورقت وجنتاها وذبلت عيناها وأصبح العبوس غالبا عليها.
Неизвестная страница