ثم دخلنا قاعة جميلة فيها أيضا من الزخرفة والزينة ما يبهر النظر ويأخذ بمجامع العقل، وفي صدرها القيصر إسكندر الثاني إمبراطور روسيا جالس على عرش مرتفع، وهو رجل طويل القامة عريض الصدر جميل المحيا، تلوح على جبينه لوائح النجابة والذكاء، وفي نظراته من الرقة والرزانة ما يجعله محبوبا من كل من يراه، فقدمني إليه السفير معلنا اسمي لدى جلالته، فرمقني بعين الحنو والابتسام، وأما أنا فتقدمت إليه خافضا رأسي احتراما لشخصه العظيم منتظرا أوامره السامية.
فكلمني بالإفرنسية قائلا: بلغني أنك مستعد للذهاب إلى سبيريا يا مستر فوكهان. - إذا أذنت لي جلالتكم بذلك . - بقصد أن ترى أحد المسجونين أليس كذلك؟
فأجبت بالإيجاب. - ولكن ماذا يلجئك لقطع هذه المسافة وتحمل مشاق هذا السفر الطويل؟ أهو صديق لك؟ - مولاي، لا أعلم إذا كان صديقا لي أم عدوا، ولكني أعلم جيدا أن سعادتي وسعادة زوجتي في قبضة يده.
فتبسم عند ذلك، وقال: إنكم معشر الإنكليز تحسنون معاملة نسائكم، فاذهب على الطائر الميمون وستحصل مني على أمر يدفع من طريقك العقبات ويسهل لديك المسير.
فانحنيت شاكرا، وانصرفت على أمل ألا أرى ما يعيقني عن بلوغ المرام.
وبعد ثلاثة أيام تناولت كتابا من بريسلا تخبرني أن بولينا متمتعة بصحة جيدة، وهي منتظرة بفروغ صبر صديقها المجهول، وأنها لم تزل على حالها من ضعف الشعور، وتلهج دائما بذكر جريمة حدثت قديما، وهي تنتظر من العدالة محاكمة الجانين، وأنه قد تراءى لها بحلم وهي مريضة أن رجلا مجهولا مطلعا على أسرارها يطالب بحقوقها.
فشعرت عندئذ بخفقان قلبي وإحياء آمالي، فزال عني بعض الكروب؛ لأني استوضحت من كلمات بريسلا أن بولينا أخذت تذكر رويدا ما مر عليها فيما مضى.
ثم إن هذه هي المرة الأولى التي أظهرت بها استغرابا لوجود خاتم العقد في بنانها، فكأنها لم تره قبلا وجعلت تديره بيدها مرارا بعد أن سألت بريسلا من أين أتاها؟ فقالت: لا أعلم. فبهتت برهة متفكرة، فسألتها: ما بك يا عزيزتي؟ فنظرت إليها باسمة، وقالت: أحلام، أحلام، أجهد نفسي بتذكارها.
فبعد تلاوة التحرير وددت لو أني أطير إليها، لكني تصبرت أخيرا، ورأيت أن لقاء سنيري لمن أهم الأمور، حتى إذا ما تمكنت من الرجوع أكون على ثقة ممن أوقفت لها حياتي وأتأكد أنها أنقى من ذهب ذلك الخاتم وأصفى سريرة من حجارته الكريمة.
بولينا. بولينا. يا عزيزتي بولينا، يا امرأتي المحبوبة، أبشري فسوف يصفو لنا الزمان ويطيب لنا العيش.
Неизвестная страница