فقال: مسكينة، مسكينة. أظنها لا تعرفني الآن لأني فارقتها حينما كنت في الثامنة عشرة ولم أرها منذ ذلك الحين.
وعند ذلك طرقت ذهني كلمات الطبيب التي تنافي زعم ماكيري، فقلت في نفسي: لا بد أن يكون أحدهما قد خدعني، ولكني أرجح الآخر إذ اتضحت لدي غايته من ذلك، ولكن ساء وهمك أيها الإيتالياني فحيلتك لم تنطل علي. فقلت له: يا مستر ماكيري ... - عفوا، فاسمي مارك. - أجل فيا مستر مارك ألا يمكنني أن أعرف ما هي الأسباب التي جلبت على زوجتي هذا الداء.
فأطرق إلى الأرض برهة متظاهرا بالكآبة، ثم قال: سأخبرك في وقت آخر، ثم قطع حديثنا دخول بولينا فنهض ماكيري وتقدم نحوها قائلا: هلا تذكريني يا بولينا؟ فرمقته بنظرة طويلة حادة ولم تجب، وكأني بها قد اندهشت لهذه المفاجأة، ثم أمالت رأسها عنه وكانت كمرتابة في أمرها. ثم قال لها: لقد طال زمن لم أرك فيه يا بولينا، ولكنه غير كاف لأن ينسيك إياي. فصوبت نظرها الحاد نحو وجهه بهيئة مزعجة، ولكنها لم تبد إشارة تدل بأن لها سابق معرفة به.
فقلت لها: ألا تعلمين من هو يا عزيزتي؟ فأمرت يدها على جبهتها بعد أن خفضت رأسها ، ثم تمتمت هاتين الكلمتين بالإيتاليانية: لا تذكرني.
وقد لحظت بأنها تود الفرار منه عندما قبض على يدها للسلام، ولكنها ما لبثت برهة حائرة حتى رمت بنفسها على كرسي وهي تصعد الزفرات.
هذا ولم ترفع عنه نظرها أثناء زيارته، بل كانت شاخصة بوجهه لا تمل من مراقبة كل حركة يأتيها. فتفاءلت بالخير لهذا التأثير الذي ظهر عليها، وأدركت بأن هذا الرجل الذي لا أعلم إن كان عدوي أم صديقي هو الشخص الوحيد الذي يقدر أن ينشلني من وهدة التعاسة، ولذلك بالغت في إكرامه والتمست منه مواصلتي بزياراته كلما سنحت له الفرصة.
وبعد أن ذهب رأيت بولينا تتحرك في كرسيها مضطربة وهي تمر يدها على جبهتها حينا بعد حين كأنها تطلب تفسير أمر أشكل عليها، وأحيانا تقترب من النافذة فتلقي نظرات غير مستقرة على إحدى الجهات ثم تعود فتلتفت نحوي بهيئة مستغربة تغاير حالتها العادية. أما أنا فتظاهرت بعدم اهتمامي بتلك الحركات التي أكدت لي أن رسم الماضي سيعود لذاكرتها شيئا فشيئا.
وهكذا انتظرت ماكيري في اليوم الثاني علها إذا أكثرت من النظر إليه يرجع إلى ذهنها ما تجهد نفسها الآن لمعرفته. أما هو فلم ينكث بوعده بل وافاني في الوقت المعين - لا سيما وأنه باحتياج إلي - فكان دأبه بعد ذلك التقرب مني والمبالغة باعتباري، وبالجملة فإنه أجاد تمثيل دوره بمهارة وحذق.
ثم زارنا بعد ذلك مرارا، وفي كل مرة كنت أتبين في هيئة بولينا تأثيرا يزداد يوما فيوما، فكانت في أثناء زياراته تلازم الغرفة التي يجلس فيها دون أن تفوه بكلمة، وكأني بها تزداد حزنا لدى مرآه، وبالعكس وقت ذهابه فإني كثيرا ما عاينتها تتنهد واضعة يدها على صدرها كأن حملا ثقيلا قد تزحزح عنه، فينفطر قلبي أسفا عندما أراها على تلك الحال، وأنا غير قادر على كشف همها وتفريج كربها، وكنا ذات يوم جالسين في الحديقة عند الغروب أنا وماكيري، وبولينا على عادتها شاخصة بالزائر وهو يقص علينا أهم ما حدث له في المواقع الحربية. فمن قوله أنه أشرف يوما على الموت إذ طعنه أحد الأعداء بمدية أصابت يمناه فقطعتها، قال ذلك وأخرج يده المقطوعة من كمه وأرانا إياها، ثم تناول خنجرا صغيرا من جيبه وحركه في الفضاء وأردف قائلا: وهكذا استللت سيفي باليسار وصوبته نحو خصمي وضربته فيه ضربة واحدة أرديته على الأرض قتيلا. ولم يأت على هذه العبارة حتى سمعت أنة عميقة بجانبي وصوت وقوع جسم على الأرض، فالتفت وإذا ببولينا مطروحة قربي وعيناها مطبقتان ولا حركة بها تدل على الحياة. فأسرعت وحملتها إلى غرفتها ثم عدت إلى ماكيري مستأذنا بمفارقته، فقال: عسى ألا يكون بها ما يخشى عاقبته. - لا، ولكن قد حصل لها إغماء بسيط، ربما كان نتيجة إشارتك التي أرهبتها.
قلت ذلك وأسرعت بالرجوع إلى غرفة زوجتي، فإذا هي لم تزل على حالها ممددة بلا حراك، صفراء كالموتى. فنضحت وجهها بالماء، وأنشقتها بعض المنعشات ولكن بدون جدوى، فلبثت على هذه الحال نحو ساعتين كنت بأثنائها جاثيا بجانبها أقبل يديها ساكبا عليهما الدموع وقلبي ينفطر حزنا لهذا المشهد المؤثر، وأوشكت أن أيأس من سلامتها لو لم أضع أصابعي على معصمها، فأشعر بضربات خفيفة تؤذن بحياتها، ثم قربت وجهي من وجهها فحسست بأنفاسها الهادئة تمر على خدي كأنها تبشرني بسرعة عودها إلى الوجود. ثم طرق ذهني فكر أحيا بي بعض الأمل برجوع شعورها بغتة إذ لا يبعد أن الحادثة التي سببت لها هذا الإغماء قد نبهت في ذاكرتها أمرا كان لديها منسيا، فلعل هذا التذكار يجعل فيها تأثيرا حسنا.
Неизвестная страница