على هذا النحو كانت تؤاتيه القدرة على تحليل أحزانه وأفراحه، ولكنه كان إذا انتهى إلى عزم عرف كيف ينفذه بحذافيره ولا يرده عن غرضه راد.
وكان قد قطع شوطا كبيرا، وبدأ يشعر بالتعب، فعاد أدراجه إلى مسكنه محمى الرأس ملتهب العواطف، ودخل إلى شقته وهو يتكلف الابتسام والهدوء؛ فرأى عروسه جالسة إلى المائدة، والغداء جاهزا، والأطباق مصفوفة، وسمعها تقول له عاتبة: «تأخرت عن موعدك.»
فنظر إلى وجهها نظرة سريعة؛ لأنه خشي أن تقرأ في عينيه ما يدعوها إلى التساؤل، وجلس إلى جانبها، بل وقبلها أيضا كما ينتظر من شاب مثله في شهر العسل، ثم قال معتذرا: «مررت في طريقي بالحلاق، وكان الصالون مزدحما.» •••
وفي صباح الغد خرج في موعده المعتاد، وسار في طريقه المعهود، ولدى مروره بمقهى النجمة قاوم رغبة شديدة نازعته إلى تصفح وجوه الجالسين بها وخيل إليه أن عينين براقتين ترقبانه بحذر وسخرية؛ فغلا الدم في رأسه، وخضب وجهه الشاحب باحمرار الخجل والعار، ولم يذهب إلى وزارته، ولكن دار دورة في الشوارع القريبة، وكان يخرج ساعته من آن وينظر إليها جزعا مضطربا، فلما دارت في منتصف الثامنة عاد أدراجه حذرا متيقظا حتى انتهى إلى صالون الحلاق وانسل داخلا، وكان خاليا إلا من صاحبه الذي حياه تحية الصباح، وابتدره قائلا: «جاء كعادته، وغاب داخل العمارة منذ ربع ساعة.»
وجمد الشاب في مكانه هنيهة؛ لأنه أحس بأنه مقبل على دقيقة فاصلة في حياته ستقرر حتما مصير سعادته وكرامته، فخان الهدوء أعصابه على رغم صلابتها وقوتها ، وشعر باضمحلال مخيف، وسمع الحلاق يقول له: «أتريد أن أصحبك؟» فآلمته عبارة الرجل، وقال بحدة: «كلا.» وغادر المكان بسرعة، وقد محا الغضب دبيب الاضطراب الزاحف على نفسه، ودخل إلى العمارة، وصعد السلم بخطوات ثقيلة. وجعل يرمق باب الشقة الذي يدنو منه بعينين جامدتين، وقد شل عقله عن التفكير ما يتجاذبه من الأفكار والخواطر التي تطفو على سطحه بسرعة، وتغيب بأسرع مما ظهرت غير تاركة من أثر سوى الذهول في النفس والحرارة في الدماغ، ووجد نفسه واقفا بإزاء الباب .. وكان يلهث كمن جرى شوطا كبيرا، وقلبه يخفق بعنف، ويدفع الدم إلى رأسه، فيدوي في أذنيه. وكأنه خشي على إرادته من التردد، فدس يده في جيبه وأخرج المفتاح، وأولجه في الباب، وأداره بخفة وحذر، ودفعه على مهل، وأدخل رأسه ليلقي نظرة على الردهة، ثم دخل وهو يكتم أنفاسه، ورد الباب بلا إغلاق كيلا يحدث صوتا.
وكانت الردهة خالية وجميع الحجرات مغلقة .. ترى أين الخادمة الصغيرة؟ وانصرف نظره إلى حجرة النوم، وخلع حذاءه ودنا منها على أطراف أصابعه حتى صار بإزاء بابها المغلق، وانحنى قليلا ووضع أذنه على ثقب الباب، وأرهف سمعه، فخيل إليه أنه يسمع غمغمة خافتة وأصواتا أخرى، ذهب الشك بعذابه وآماله، وسفرت أمامه الحقيقة الأليمة المخزية، وقد انطفأ نور بصره ثواني من شدة الغضب، ولم يعد يحتمل الجمود فتراجع خطوتين، وثنى ساقه وشد عليها بقوة جنونية، ثم أطلقها بعنف في الباب، فارتج ارتجاجا شديدا، وانفتح بحالة تشنجية. وخطا خطوتين، فاجتاز عتبة الحجرة، ودوت في الحجرة صرخة جنونية، وقفز من الفراش جسمان عاريان، الزوجة وذاك الشاب.
وكانت المرأة في حالة جنونية من الرعب؛ فجسدها يرتجف، ووجهها يصفر، وعيناها تتسعان، وقد سحبت اللحاف على جسمها بحركة عكسية، ولبثت تنظر إلى زوجها كأنما تنظر إلى شيطان رهيب .. أما الشاب فهم بالجري إلى ثيابه الموضوعة على «الشيزلنج»، ولكن قدميه تسمرتا في الأرض فجمد في مكانه، وجعل ينظر إلى الزوج نظرة ذعر ويأس مميتين، ومد يده بتوسل، وقال بصوت مرتجف كأصوات الأطفال المنتحبين: «في عرضك .»
من العجيب حقا أن الزوج لم يغشه الجنون، ولم يندفع إلى الانتقام كما يحدث عادة، بل هبط عليه جمود غريب، وتلبسه هدوء غامض شبيه بنكهة الخمر التي ترد المنتشي الهائج إلى ثقل النوم، فلبث واقفا مكانه، وجعل يقلب عينيه بين العاشقين في هدوء قاس كأنه يشاهد منظرا بعيدا عن مشاركة وجدانه ومشاعره.
ورأى يد زوجه وهي تسحب اللحاف على جسمها؛ فسألها ببرود قائلا: «أتخجلين من الظهور أمامي عارية؟»
وتحول إلى الشاب، فصاح به هذا بصوته المرتعش المحموم: «الرحمة .. دعني أرتدي ثيابي، وافعل بي ما تشاء.»
Неизвестная страница