ولا عجب فشهر العسل في حياة الأزواج كالشباب الناضر في الآجال المعمرة، وقد حبته الطبيعة ألذ المتع ودفعته مهرا لحياة الزوجية التي يستأديها الذكور من جميع الأنواع. وكان حضرة الفاضل حمدي أفندي المهندس واحدا من ذكور أسمى الأنواع كلها، وقد تزوج من ابنة أحد زملائه وأساتذته المهندسين، وهي فتاة جميلة مهذبة سمع عنها ورأى فيها ما علقه بها ورغبه فيها، وهو الآن يستمتع بلذة اللذاذات التي تجزي بها الطبيعة الصادعين بأمرها الداخلين في طاعتها.
ولاحظ المهندس في جلسته الهادئة المغتبطة أن «الأوسطى» لم يكن كعادته ذلك اليوم. رآه واجما والعهد به ضحوكا، ووجده صامتا والعادة أن يكون ثرثارا لا يسكن له لسان، فعجب لشأنه، ولكنه لم تؤاته الشجاعة على سؤاله عن حاله، ولاذ بالفرصة الجميلة التي كفته مشقة ثرثرته وشقشقة لسانه، وتغاضى عن شذوذه حتى انتهى من عمله فقام واقفا، ولم ير حرجا في إبداء ملاحظاته فسأله قائلا، وهو يعقد رباط رقبته: «ما لك صامتا واجما كأنك لا تجد ما تقوله؟»
وبدا على الرجل الارتياح لمفاتحة المهندس له بذلك السؤال، وكان يرغب في الكلام حقا، وتلح عليه الرغبة إلحاحا شديدا، ولكنه لا يدري كيف يلج الموضوع، ورأى زبونه يكاد ينتهي من ارتداء ملابسه؛ فأشفق من ضياع الفرصة، وقال: «الحق يا سيدي أن لدي كلمة أريد أن أقولها، ولكن ...»
وتوقف عن الحديث، فازداد عجب الشاب، وسأله باهتمام: «ولكن ماذا؟» - «إن بعض الظن إثم، وكثيرا ما يخطئ الإنسان في تقديره. والحق أني أدمت التفكير طويلا وقلبت المسألة على جميع وجوهها، فرأيت أن الواجب يقضي علي بمصارحتك بظنوني مهما كانت الاحتمالات والعواقب.»
وكان الشاب قد انتهى من عقد رباط رقبته وارتداء جاكتته وطربوشه، فدنا من الحلاق وحدجه بنظرة اهتمام وانشغال، وقال: «إن كنت ترى حقا أن الواجب يقضي عليك بمصارحتي، فما معنى التردد والتلعثم؟»
فتنهد الرجل، وقال: «حسن يا سيدي .. اعلم أني لاحظت أمورا ...» - «...؟» - «منذ أسبوعين أرى شابا يتردد على العمارة التي تسكن فيها كل صباح بعد الساعة الثامنة مباشرة.»
فزوى الرجل ما بين حاجبيه، وقال باستهانة: «نعم؟!» - «لقد لفت نظري بهيئته ومواظبته، فشغلت فراغ الصباح بمراقبته، ولاحظت أنه يحضر من شارع عاصم حوالي الساعة السابعة، ويأخذ مكانه في مقهى النجمة، حتى إذا غادرت البيت وذهبت إلى الوزارة يدفع ثمن قهوته، ويترك المقهى إلى العمارة رأسا.»
وكان المهندس - على شبابه - رزينا ثابتا بمنجى أمين من الرعونة والطيش، فعض على شفته السفلى كعادته كلما ارتبك أو أخذ، وكأنما أراد أن يغالب القلق الزاحف عليه فسأله بلهجة الغاضب: «ما الذي تعني؟»
فاصفر وجه الحلاق، وندم على خوض هذا الحديث الأليم، ولكنه لم ير بدا من الاستمرار، فقال: «إني أرجو أن أكون مخطئا يا سيدي، بل إني لا أتمنى على الله أكثر من أن يكشف عن وجه الخطأ في جميع ظنوني، ولقد ترددت طويلا قبل أن أبثك هذا الحديث، ولكني رأيت أن المصارحة مع ما تنذر به أفضل عندي من التستر على العيب مع السلامة .. وقد كان مما أيقظ الشك في نفسي أني رأيته مرات يلاحظك خلسة وأنت سائر في طريقك، ويرمقك بنظرات لم يرتح إليها قلبي، حتى إذا غيبك منحنى الطريق قام بسرعة وانسل إلى داخل العمارة.» - «ألم تره خارجا منها؟» - «رأيته مرات، وقد لبث في الداخل ساعتين أو يزيد.» - «ما شكله؟» - «هو شاب في مقتبل العمر، حسن الهندام، مخنث الهيئة، لولا تسكعه في الصباح لقلت إنه طالب.»
ورأى الحلاق المهندس واجما صامتا تصرح سرائره بما يقهر نفسه من الاضطراب والقلق، فقال بتألم: «لا تأخذ بظني يا سيدي، واسلك سبيل الحكماء؛ فتحقق الأمر بنفسك، والحق أني غير آسف على قول ما قلت، ولكني ألعن الظروف.»
Неизвестная страница