المقدمة
1 - دي تريفيل
2 - أسباب الخصام
3 - حراس الملك وشرطة الكردينال
4 - لويس الثالث عشر ملك فرنسا
5 - الحراس في أنفسهم
6 - دسيسة في قصر الملك
7 - امرأة صاحب الفندق السبية
8 - تدبير الحيلة
9 - جورج فيليه دوق دي بيكنهام
Неизвестная страница
10 - بوناسيه صاحب الفندق
11 - الكونت روشفور خصم دارتانيان
12 - رجال القلانس ورجال السيوف
13 - الملك والملكة والكردينال
14 - في تداخل كونستانس بوناسيه
15 - العشيق والقرين
16 - تدبير السفر
17 - الرحيل
18 - الكونتس دي ونتر
19 - ليلة الرقص
Неизвестная страница
20 - الموعد
21 - الشرفة
22 - بورتوس
23 - قصة أراميس وامرأة أتوس
24 - العودة إلى باريز
25 - البراز
26 - الطعام عند عشيقة بورتوس
27 - الوصيفة والسيدة
28 - تجهيز أراميس وبورتوس
29 - ليلة الميعاد
Неизвестная страница
30 - الزيارة
31 - سر ميلادي
32 - لا ييأسن نائم أن يغنما
33 - مرور الخيال
34 - الخيال الهائل
35 - حصار روشل
36 - خمر أنجو
37 - فندق برج الحمام
38 - فائدة الأسطوانة
39 - لقاء الزوجين
Неизвестная страница
40 - حصان سان جرفي
41 - محادثة الحراس
42 - الرسالتان
43 - الكرب الشديد
44 - محادثة الأخ والأخت
45 - عود إلى فرنسا
46 - اليوم الأول من أسر ميلادي
47 - اليوم الثاني من الأسر
48 - اليوم الثالث من الأسر
49 - اليوم الرابع من الأسر
Неизвестная страница
50 - اليوم الخامس من الأسر
51 - تمام الحكاية
52 - الفرار
53 - فيما جرى في بورت سموث في 22 آب سنة 1628
54 - في فرنسا
55 - دير الكرمليين في بيتين
56 - اثنان من الأبالسة
57 - نقطة الماء
58 - الرجل ذو العباءة الحمراء
59 - المحاكمة
Неизвестная страница
60 - الإعدام
الخاتمة
المقدمة
1 - دي تريفيل
2 - أسباب الخصام
3 - حراس الملك وشرطة الكردينال
4 - لويس الثالث عشر ملك فرنسا
5 - الحراس في أنفسهم
6 - دسيسة في قصر الملك
7 - امرأة صاحب الفندق السبية
Неизвестная страница
8 - تدبير الحيلة
9 - جورج فيليه دوق دي بيكنهام
10 - بوناسيه صاحب الفندق
11 - الكونت روشفور خصم دارتانيان
12 - رجال القلانس ورجال السيوف
13 - الملك والملكة والكردينال
14 - في تداخل كونستانس بوناسيه
15 - العشيق والقرين
16 - تدبير السفر
17 - الرحيل
Неизвестная страница
18 - الكونتس دي ونتر
19 - ليلة الرقص
20 - الموعد
21 - الشرفة
22 - بورتوس
23 - قصة أراميس وامرأة أتوس
24 - العودة إلى باريز
25 - البراز
26 - الطعام عند عشيقة بورتوس
27 - الوصيفة والسيدة
Неизвестная страница
28 - تجهيز أراميس وبورتوس
29 - ليلة الميعاد
30 - الزيارة
31 - سر ميلادي
32 - لا ييأسن نائم أن يغنما
33 - مرور الخيال
34 - الخيال الهائل
35 - حصار روشل
36 - خمر أنجو
37 - فندق برج الحمام
Неизвестная страница
38 - فائدة الأسطوانة
39 - لقاء الزوجين
40 - حصان سان جرفي
41 - محادثة الحراس
42 - الرسالتان
43 - الكرب الشديد
44 - محادثة الأخ والأخت
45 - عود إلى فرنسا
46 - اليوم الأول من أسر ميلادي
47 - اليوم الثاني من الأسر
Неизвестная страница
48 - اليوم الثالث من الأسر
49 - اليوم الرابع من الأسر
50 - اليوم الخامس من الأسر
51 - تمام الحكاية
52 - الفرار
53 - فيما جرى في بورت سموث في 22 آب سنة 1628
54 - في فرنسا
55 - دير الكرمليين في بيتين
56 - اثنان من الأبالسة
57 - نقطة الماء
Неизвестная страница
58 - الرجل ذو العباءة الحمراء
59 - المحاكمة
60 - الإعدام
الخاتمة
الفرسان الثلاثة
الفرسان الثلاثة
تأليف
ألكسندر ديماس
ترجمة
نجيب الحداد
Неизвестная страница
بسم الله الفتاح
أما بعد، فإن فن الروايات من أفضل ما شغل به فتيان هذا العصر، وأحسن ما سعوا له وحثوا إليه الهمم وصرفوا عليه الأوقات؛ لاكتفاء اللغة بغيره من كتب الصرف والنحو وعلوم الأدب مما أبرزه علماؤها وأئمتها، فأبدعوا فيه غاية الإبداع وبلغوا حد الإعجاز، حتى لم يتركوا بعده مقالا لغيرهم ولم يقصروا به عن شأو يطمع فيه من بعدهم، إلا إذا كان من قبيل المقامات والشعر والرسائل، وهو ما لا يكاد يبلغه كل من له قدرة على ترجمة رواية أو تعريب قصة. ولقلة مصنفات هذا الفن في لغتنا العربية واقتصار الكثير منها على أحاديث منقطعة ونوادر مقتضبة تورد لشاهد أو مثل أو نكتة أو ما جرى مجراها، بحيث لا يكون منها قصة وافية بالمطلوب جامعة ما يقصد في فن الروايات من تهذيب النفوس وترويض الأخلاق، وهي كتب كثيرة كالعقد الفريد وزهر الآداب والأغاني وغيرهما مما يراد به جمع النكات ويقصد فيه إلى تدوين الغرائب والأمثال وضروب البلاغة ومخارجها، فيرد المثل في عرض الحكاية وتدخل النكتة في خلال القصة، ومنها ما يراد به الإعجاز والإبداع في مدح الشيء وذمه توسعا في الكلام واقتدارا على المعاني، وهو ما لا يؤثر شيئا في الأخلاق كما توهم بعض مترجمي هذا العصر، وإنما يورد تفكهة للخواطر وبيانا لسعة إدراك ناظمه وطول باعه في الاختراع؛ حتى يهجن الحسن ويحسن القبيح ولا دخل له في مقام الروايات والسير التي يقصد بها النفع وتتوخى منها الفائدة للخاصة والعامة؛ ولذلك فقد عنيت بتعريب هذه الرواية عن اللغة الفرنسوية متحريا ما وسعته الطاقة وبلغ إليه الخاطر الكليل من مجاراة اللغة العربية ومراعاة ضروب التعبير فيها ومقام الأحاديث في قصصها، من إسقاط ما يختلف به الإفرنج عنا في استحسانه أو استهجانه، ويباينوننا فيه من حيث الفصاحة والركاكة والحسن والقبح والملائمة والتنافر ونحوها. وأنا أعلم أن ذلك تهجم مني على المؤلف - رحمه الله - في إسقاط بعض كلامه وإيجاز بعضه، ولكني لم أجر هذا المجرى ولم أعتمد هذه الخطة إلا مجاراة للغة واسترسالا مع نسقها بحيث يغتفر لي في جانب مراعاته ما يؤخذ علي في الإخلال بالأصل. ولعل أمري في ذلك يحمل بعضه بعضا وأخلص منه لا علي ولا ليا.
وأنا أرجو من أرباب اللغتين أن يغضوا الطرف عما يرونه من الزلل، ويغتفروا ما يعثرون عليه من الخلل، والله المستعان على ما به الهداية وقصد السبيل، وإياه نستوهب العصمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المقدمة
في اليوم الأول من شهر نيسان سنة 1635 كانت قصبة مقاطعة مينك في هياج واضطراب كأنها في فتنة، ورجالها تتسابق إلى فندق فيها كأنها تسعى إلى أمر ذي بال، والنساء بين ذلك يركضن والولدان يبكون والهياج عام في البلد. وكانت فرنسا في ذلك العهد مقر الفتن وميدان الحروب، يهاجم أمراؤها بعضهم بعضا، ويحارب ملكها الأندلسيين، وتعدو اللصوص على السابلة فتسلبهم بحيث كان الرجل لا يفارق سيفه ولا ينزع لأمته.
وكان من أمر ذلك أن فتى يدعى الكونت دارتانيان دعا به أبوه في ذلك اليوم فسلمه فرسا له وقال له: يا بني، هذا فرسي وضعته أمه في فنائي، فاحتفظ به ولا تهمل أمره، فإنها الجياد، في ظهورها العز وعلى صهواتها المجد، وفيها لحاق للطالب ومنجاة للهارب، والخيل معقود بنواصيها الخير. ثم إذا أتيت دار الملك - وأنت ذو حق في إتيانه؛ لسمو منزلتك من الشرف ومكانك من الفخر وعراقة أجدادك في النبل من نيف وخمسمائة سنة - فلا تخفض جناحك إلا للكردينال والملك، ولا ترهب غيرهما، فإن الرجل اليوم لا يأمن طريقه إلا بالشجاعة والإقدام والصبر على المكاره، وأنت حري بذلك؛ لتقدم أصلك في بلاد الغسقون، وهم شجعان الناس وأحلاس الخيل، ولتسلسلك من آباء كرام آخرهم أنا. وإني قد ألقيت حبلك على غاربك ووكلتك إلى نفسك، فاذهب لا ترهبك النوائب ولا يقعد بك العجز عن استفراص الفرص؛ فلقد أصبحت بريء الذمة منك، واضح وجه العذر فيك؛ إذ قد علمتك أنواع الحروب وركوب الخيل، وتركت لك لأمة جلاد لا ينقصها شيء من العدة. وهذا القدر اليسير من المال وهذه الرسالة تعطيها إلى صديق لي في قصر اللوفر يدعى دي تريفيل، وهو سيد رفيع المنزلة وافر الثروة مسموع الكلمة، يتحامى جانبه الكردينال نفسه الذي لا يرهب أحدا، فسر على بركات الله واحتفظ بوصاتي لك، والله يكلأك ويرعاك.
ثم قبله وصرفه، فخرج فأصاب أمه في فناء الدار، فانعطفت عليه تقبله وتبكي لفراقه، ثم أعطته مرهما يسرع في برء الجراح. فخرج من عندها فركب فرسه وسار، تستحثة العزة وتحدوه النخوة والشباب حتى انتهى إلى المدينة التي ذكرناها، فترجل عن جواده لدى أحد الفنادق، وتقدم فرأى نافذة فيها رجل طويل القامة حسن الملبس يخاطب رجلين كانا معه وينظر إليه، فظن أنهم يعنونه في كلامهم، فدنا منهم وأنصت إليهم فسمعهم يذكرون فرسه ويضحكون منه، فهاجه ذلك، وجعل ينظر في الرجل نظرة المغيظ المحنق، والرجل يستغرق في الضحك حتى لم يعد في الشاب مجال للسكوت والصبر، فاقترب من النافذة وقد رانت عليه الحدة وقبض على سيفه وقال للرجل: ما بالك تضحك؟ وما الذي دعاك إلى الضحك؟ فعجب الرجل من بديهة خطابه، فأغلظ له وزاد بينهما اللجاج حتى خرج الرجل إليه من الباب وتبعه صاحباه، فسل دارتانيان سيفه وهم بالهجوم على خصمه، فبادره الرجلان بالعصي حتى برحا به، فقال لهما صاحبهما: احملاه على فرسه وليرجع من حيث أتى. قال: والله لا أرجع أو أقتلك، ثم التقيا واشتد بينهما القتال حتى تعب دارتانيان، فضربه خصمه على سيفه فكسره وأصاب جبهته، فانجرح وسقط لا يعي على شيء وهو ما دعا إلى تجمع الناس لأنهم خافوا من حدوث فتنة في المدينة.
أما الجريح فنقلوه إلى مكان في الفندق، ودخل الرجل إلى غرفته وصار إلى النافذة، فدخل عليه صاحب الفندق، فلما رآه الرجل سأله عن حالة الجريح، قال: هو مغمى عليه، فكيف أنت يا مولاي؟ قال: سليم بحمد الله، فماذا صنعتم بالفتى؟ قال: بحثنا في ثيابه فلم نجد معه إلا بعض الدراهم، ولقد قال لنا قبل أن يغشى عليه إنه لو جرت معه هذه الحادثة في باريز لكان يريك فعل الرجال، ولكنك هنا في مكان أنت فيه الأمير المطلق. قال: يلوح لي أنه من أصل شريف، فهل لم يذكر اسم أحد؟ قال: نعم، كان يضرب بيده على جيبه ويقول: سنرى ما سيكون من دي تريفيل إذا علم بما جرى لصديقه. قال: ألم تر ما في جيبه؟ قال: رأيت كتابا باسم دي تريفيل قائد الحرس. فارتاع الرجل لذلك وقال له: أين وضعتموه؟ قال: في غرفة امرأتي. قال: وأين ثيابه؟ قال: في المطبخ حيث رششنا عليه الماء. قال: إذن فنبه خادمي للسفر فإني راحل. قال: نعم. وخرج والرجل يقول: لا ينبغي أن تعرف ميلادي ما جرى ولا أن ترى الرجل؛ ولذلك فأنا ألاقيها، ثم نزل إلى المطبخ حيث ثياب الجريح.
وكان صاحب الفندق قد صعد إلى غرفة دارتانيان فوجده قد أفاق، فقال له إنه يخشى من الشرطة أن تأخذه لاعتدائه على سيد شريف، ثم نصح له بالذهاب من الفندق، فقام الفتى واقفا وخرج إلى المطبخ، وحانت منه التفاتة فرأى خصمه واقفا لدى عربة كبيرة يخاطب امرأة فيها، صبوحة الوجه بارعة في الجمال وهي تخاطبه بحدة كأن بينهما أمرا خطيرا، حتى قالت: أكذا يأمرني الكردينال؟ قال: نعم، بأن ترجعي إلى إنكلترا وتعلميه إذا رحل الدوق عن لندرة. قالت: نعم، ثم ماذا؟ قال: أما ما بقي من الأوامر فتجدينه في هذه العلبة، ولا تفتحيها إلا متى صرت في لندرة. قالت: وأنت ما تفعل؟ قال: أرجع إلى باريز. قالت: أفلا تعاقب هذا الغلام الذي اجترأ عليك؟ وكان دارتانيان قد سمع ما دار بينهما وهو واقف على عتبة الباب، فقال: أنا أعاقب الناس، فمن يعاقبني؟ فوالله لا تفلت مني في هذه المرة أبدا. فعبس الرجل وجهه، وأهوى بيده على قبضة سيفه ، فصاحت به الامرأة: على رسلك يا مولاي، فإن أقل تأخر يهدم ما بنيناه. قال: صدقت، فاذهبي في طريقك وأنا ماض في طريقي، ثم ركب جواده وسار، فتبعه دارتانيان وهو يصيح به ويستوقفه حتى أعيا وثار عليه جرحه فسقط مغشيا عليه، فاحتمله صاحب الفندق إلى غرفته وعالجه حتى أفاق.
ولما كان اليوم الثاني وقد شفي جرحه من المرهم الذي معه نزل إلى ثيابه، فنظر فيها فلم يجد الكتاب، فاغتم لذلك غما شديدا، فقال له صاحب الخان: ما أظن الكتاب إلا مسروقا. قال: ومن سارقه؟ قال: خصمك؛ فقد نزل وبحث في ثيابك. قال: إذا رأيته أره عاقبة أمره، ثم ركب جواده وسار حتى بلغ باريز، وكان ماله قد نفد في الخان فاضطر إلى بيع الفرس، ودخل باريز راجلا. وانطلق يلتمس مسكنا في أحد الفنادق، فوجد غرفة في شارع فوسوايير على مقربة من ليكسمبرج، فأقام فيها يصلح من شأن ثيابه، ثم نزل إلى السوق فجدد نصل سيفه، ثم عمد إلى اللوفر فسأل عن منزل دي تريفيل، فقيل له في شارع برج الحمام، وهو شارع على مقربة من غرفته، فعاد إلى منزله وبات، ثم قام في وجه الصبح قاصدا دي تريفيل ثالث رجل في فرنسا بعد الملك والكردينال.
Неизвестная страница
الفصل الأول
دي تريفيل
هو رجل غسقوني المحتد، كانت بداءة أمره في الدولة كبداءة دارتانيان، فرقي بشجاعته وحذقه وتبصره بالعواقب، درجة رفيعة في الدولة بين مشاغب ذلك القرن وفتنه حتى صار صديق الملك، ونال أعظم وسامات الشرف لصدق خدمته وعظم أمانته؛ فكان يلقي إليه الملك مقاليد أموره ويكل إليه عظائم مهماته، فكان مقربا لديه محببا إليه؛ لعظم ثقته به واسترساله له؛ حتى جعله قائد حرسه.
وكان الكردينال ريشيليه في ذلك العهد مالك زمام الدولة، يصرف أمورها كيف شاء، بحيث كان هو الملك المطلق صاحب الكلمة النافذة، فاستخدم لنفسه حرسا مثل حرس الملك يرسلهم في مهماته ويتكل عليهم في أموره، وينافس بهم الملك في رجاله حتى كثرت بين الفريقين الضغائن واستمكن الحقد وتواترت وقائعهم في البراز، وطالت المنافسة بين الملك والكردينال في انتصارهم وشجاعتهم.
وكان حراس الملك وقائدهم دي تريفيل يطوفون المدينة شامخة أنوفهم مفتولة سبالهم، يجرون سيوفهم عزة وازدهاء، حتى إذا قابلوا حراس الكردينال سخروا بهم وضحكوا منهم حتى يبلغ بهم الأمر أحيانا إلى القتل وسفك الدماء، إلا أنهم مع ذلك كانوا شديدي الغيرة على قائدهم سريعي الامتثال له يفادونه بأرواحهم ويبذلون في خدمته دماءهم، حتى أصبح منهم في حصن حصين ومقام رفيع، ترهبه رجال فرنسا قاطبة. وكانت داره في شارع برج الحمام دارا واسعة الجوانب رحبة العراص، يجتمع فيها كل يوم أكثر من ستين حرسيا يتبارزون بالسيوف ويتدربون على القتال بينا يكون قائدهم في مجلسه يسمع للناس ويحل المشاكل، بحيث كان مضطلعا بأمور المملكة بما كفى معه الملك مئونة الأحكام.
فلما وصل دارتانيان إلى تلك الدار رأى الناس مزدحمة والحراس في ساحة مجتمعين يبارز بعضهم بعضا، فاستأذن وأقام ينتظر الإذن ويتفرج على المتبارزين ويسمع أحاديثهم ويحادث من كان إلى جانبه منهم حتى جاءه الحاجب بالإذن، فدخل، فتلقاه دي تريفيل بوجه باش وأنس زائد، ثم أشار إليه بالجلوس فجلس، ثم دعا بصوت عال أتوس وبرثوس وأراميس، فدخل عليه رجلان طويلا القامة حسنا اللباس، عليهما علائم الشجاعة، فوقفا بين يديه فجعل يصوب نظره فيهما ويصعده، وقد عبس وجهه وقطب حاجبيه، ثم قال: أتعلمان ما قال لي الملك أمس؟ قالا: لا. قال: إن الملك قد قال لي إنه يريد أن يستبدلكم معاشر الحراس برجال الكردينال، أفتعلمان لماذا؟ قالا: لا. قال: إن الكردينال قد قال إنكم فرقة الحراس تثيرون الشغب في المدينة وتنافرون الناس على عجزكم وقصر باعكم، ثم مالي لا أرى أتوس بينكما؟ قالا: هو مريض يا مولاي. قال: وما به؟ قالا: مصاب بالجدري حتى خشينا أن تشوه وجهه بندوبها. قال: تكذبان والله، فما تصيب الجدري من كان في سنه، أم ترهبان أن تقولا إنه جريح أو قتيل، بل هي حال لا أريدها لكم ولا أريدكم لها من منازعة الناس ولعب السيف في الساحات. فلم لا تكونوا كرجال الكردينال في شدة تعقلهم وتأنيهم على غلظ أكبادهم وجفاء مرتهم، حتى إن الرجل منهم ليقتل في مكانه ولا يرجع، ولسان حاله ينشد:
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا
صدود الخدود وازورار المناكب
أفما تخجل حراس الملك من أن تقبض شرطة الكردينال على ستة منهم؟ فبأي وجه أقابل الملك بعد ذلك إلا إذا استقلت واعتزلت منصبي؟ فأجاب برتوس وقد أخذ منه الغضب: خفض عليك يا مولاي، فقد كنا ستة ننازل ستة، إلا أن حراس الكردينال داهمونا قبل أن تخرج سيوفنا من أغمادها فقتلوا منا اثنين وجرحوا أتوس حتى سقط. أما قولك بأنهم أسرونا فإن ذلك لم يكن إلا على رغمنا؛ إذ قيدونا قسرا، ولكن تخلصنا منهم في الطريق. أما أتوس فقد حسبوه ميتا فتركوه، ولكن لا بأس، فكم لنا عندهم من مثل ذلك والنصر دولة تدول. فقال دي تريفيل وقد برقت أساريره: ما أنا وأنتم، فقد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا. فقال أراميس: عفوا يا مولاي، فلا تشع أن أتوس جريحا، فإن ذلك مما يقطع آمالنا لدى الملك. وفيما هو يتكلم دخل رجل أصفر الوجه عليه آثار السقم، فالتفت إليه الرجلان فإذا به أتوس، فتقدم إلى دي تريفيل وقال: لقد دعوتني يا مولاي فلم أجد بدا من الطاعة، فتحاملت إليك وأنا لما بي، فعسى في الأمر خير. قال: كنت أحذر رفيقيك من التغرير بنفسيهما فيما لا طائل تحته ولا جدوى منه على شدة حاجة الملك إلى الشجعان ولا سيما من الحراس؛ لاعتقاده أنهم من أشد رجال الأرض بطشا وإقداما، ثم مد يده إلى أتوس ليصافحه وإذا به يرتجف حتى سقط صريعا، فصاح دي تريفيل بالناس: علي بجراح ماهر. فتبادر القوم إلى جراح، فجاءوا به، فأمر بنقل الجريح إلى غرفة أخرى فنقلوه، فقال له القائد: هل في الجرح خطر؟ قال: لا، فإن ضعفه هذا من نزيف دمه. فخرج القائد إلى دارتانيان فسأله عن اسمه، فانتسب. فسر به القائد واعتذر إليه من نسيانه إياه، ثم قال له: سل حاجتك، فإن لأبيك علي حقا يلزمني قضاؤه لك. قال: قدمت من بلادي متذرعا إليك بما بينك وبين أبي من قديم الوداد وعريق الولاء ألتمس منك وظيفة بين حراسك، حتى رأيت شجاعتهم فصغرت عندي نفسي. قال: لا، وأصلحك الله بل أنت أهل لها، ولكن الملك لا يقبل في حراسه إلا من كان له شهرة في الحرب وبلاء حسن في القتال أو خدمة صادقة في فرقة دون فرقة الحراس، فأنا أسعى لك بما يكون لك فيه صلاح وخير من المال، فإني أراك في حاجة إلى النفقة، ولكن لا تقنط من نفسك، فقد أتيت باريز مثلك بقليل من المال، وأنا كاتب لك الآن وصاة إلى صديق لي يسعى لك في منصب عنده فلا تنقطع عن زيارتنا. قال: لقد ذكرتني يا مولاي بوصاة أبي لك. قال: وأين هي؟ قال: لقيني رجل في الطريق فسرقها مني، ثم قص عليه قصته، فقال له: أليس لذلك الرجل ندبة في وجهه؟ قال: نعم، كندبة الجرح، وهو جميل الوجه طويل القامة أسود الشعر. قال: عرفته. قال: والله لئن لقيته لأقيمن أخدعيه. قال: أولم يكن في انتظاره امرأة؟ قال: نعم، وقد فارقها بعد أن حادثها شيئا. قال: أما سمعت ما دار بينهما؟ قال: بلى، أعطاها علبة زعم أن فيها أوامر لها وأوصاها بأن لا تفتحها إلا في لندرة. قال: وهل هي إنكليزية؟ قال: نعم، وتدعى ميلادي، فإن كنت تعرفه يا مولاي فدلني عليه. قال: إياك وإياه، فلا تتعرض له لئلا تكون:
كناطح صخرة يوما ليفلقها
Неизвестная страница
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ثم أوصاه بحفظ ما جرى وأن لا يتعرض للقدح بالكردينال؛ إذ كان بينه وبين عشيرته شيء من الضغينة والحقد. قال: أصبت يا مولاي، فقد أوصاني أبي بأن لا أتحامى جانب أحد إلا الملك والكردينال وأنت، وأنا لا أنوي الشر للكردينال ولا حقد بيني وبينه بحمد الله. قال: أحسنت، واعلم أن بيتي لا يقفل عنك متى شئت، وأنا لك عون إذا مسك أمر لا سمح الله. قال: أبلغت يا مولاي وتفضلت، وعسى أن لا تطول مدة افتراقي عن حراسك إن شاء الله، ثم احتفز للذهاب فأوقفه القائد وقال: رويدك حتى تأخذ الوصاة، ثم ذهب يكتبها ووقف دارتانيان في النافذة ينظر إلى المارة حتى انتهى القائد من الكتابة وأعطاه الورقة، فأخذها وتملص منه بسرعة وهجم إلى الباب وهو يقول: وجدته، فلا خلاص له في هذه المرة، فقال له القائد: وما ذاك؟ قال: خصمي في مينك، ثم نزل في السلم مسرعا.
الفصل الثاني
أسباب الخصام
وبينا دارتانيان ينزل السلم على عجل لا يلوي على شيء صدم كتف أحد الحراس فصاح صيحة الألم، فالتفت إليه دارتانيان واعتذر واستمر في النزول، فلم يشعر إلا والرجل قد قبض على طوقه من خلف فأوقفه وقال: لا تظن أن اعتذارك يغني عنك شيئا، فأنا ممن لا يؤخذون بالاعتذار، بل أظنك سمعت دي تريفيل يزجرنا فظننت أننا سواء لدى الجميع، لا والله فقد كذبك فألك، فما أنت بالقائد. فنظر إليه الشاب وإذا به أتوس الجريح وكان قد خرج من لدن الطبيب، فقال له: اغتفرها أيها الرفيق، فإنها زلة عن غير عمد دعتني إلى الاعتذار، ولعله يقوم بخطائي لديك، فدعني يرحمك الله فأنا أسعى إلى أمر. فتركه وقال: يظهر لي أنك فتى غر لا تعرف من الأدب شيئا وهو ما يقوم لك مقام العذر. فقال دارتانيان - وقد بلغ غاية السلم: لم آت والله من بلادي تخفضني أرض وترفعني أخرى لأتعلم الأدب من أمثالك، ولو لم أكن مستعجلا ما رأيتني مدبرا عنك. قال: وأين ألقاك غير مدبر؟ قال: على مقربة من كارم ريشو عند الظهر. قال: أنصفت، فلا تخلف الموعد. قال: نعم. ومضى يعدو حتى بلغ الباب، وكان بورتوس واقفا في الباب يخاطب رجلا، فمرق دارتانيان من بينهما مروق السهم، وكان الهواء قد نشر عباءة بورتوس فجاءت في وجه دارتانيان فحالت دونه ومنعته من الذهاب، فجذبها بورتوس، فالتفت على الفتى فعلق فيها وجعل يناوصها وقد غطت على بصره، فصاح به بورتوس: ويحك ما هذا؟ أتلقي بنفسك على الناس؟ قال: العفو يا سيدي، فإني أطلب أمرا خطيرا يقضي علي بالعجلة. قال: ليس ذلك بعذر، أفتعمى عن الناس إذا عدوت؟ قال: لا، بل أرى ما لا يراه غيري. قال: إنك لوقح أيها الشاب. قال: أقصر، فمتى ألقاك بغير عباءة. قال عند الساعة الواحدة بعد الظهر وراء ليكسمبرج. قال: نعم. ومضى يفتش في الشارع فلم يجد أحدا، فطاف كل ما حوله من الطرق والأزقة فلم يقف لخصمه على أثر، فعاد وهو يفكر في أمره كيف أنه وقع برجلين من الحرس يهزم الواحد منهما جيشا، ثم أخذ يلوم نفسه على خفته وطيشه، ثم وطن نفسه على البراز، وأقبل وهو يقول: صدق من قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
ولم يزل سائرا حتى وصل إلى فندق أكويلين، فرأى عنده أراميس يحادث ثلاثة من النبلاء من حراس الملك، فعرفه وتقدم مسلما عليه، فأجابه وأمسك عن المحادثة، فوقف الفتى حائرا لا يدري فيما يأخذ من الكلام مع قوم لا يعرف إلا واحدا منهم بالنظر، وفيما هو كذلك سقط من أراميس منديل ثم داس عليه على غير عمد، فتناوله دارتانيان من الأرض وأعطاه للحارس، وكان المنديل موشى بالذهب، فقال له أحد أصحابه: أتقول إن عشيقتك بواتراسي غاضبة عليك وأنا أرى مناديلها بين يديك؟ فنظر أراميس إلى دارتانيان نظرة الغضب وقال للرجل: غلطت يا سيدي، فإنه ليس لي ولا أدري كيف اختصني به هذا الشاب من بينكم، فإن منديلي معي. ثم أخرج منديلا آخر من جيبه، فقال له أحدهم: إذا صح زعمك فإن لي حقا في أخذه منك لأن صاحبته من ذوي قرباي. قال: إنك غير مصيب في طلبك ولا يحكم لك به شرع. فقال له دارتانيان: إني - والحق يقال - لم أر المنديل قد سقط من جيبه، سوى أني رأيته تحت رجله فحسبته له. فقال أراميس للرجل: إذا كانت الامرأة من ذوي قرباك فأولى للمنديل أن يكون قد سقط منك. قال: لا وأقسم بالله. قال: إن حلفك لا يغني، فلنجر في الأمر على حكم سليمان - عليه السلام - ونقسم المنديل إلى شطرين. فضحك القوم منه ثم ودعوه وانصرفوا، وانصرف هو من جهة أخرى، فتبعه دارتانيان وقال: اغتفرها يا مولاي، فالمرء موطن الزلل. قال: صدقت، ولكنك لم تجر في فعلك على سنة الأشراف والنبلاء لأنك لا تجهل أن الرجل لا يدوس منديلا بغير قصد، فليست باريز مفروشة الأرض بالنسيج. قال: أما والله لقد عدوت الصواب على إغلاظك في الجواب، وأنا لا أطيق ذلك ولا صبر لي عليه. قال: إني لست ممن يحبون المشاكل إلا إذا مست الحاجة، وأرى الحاجة تدعوني إليها الآن، فما الذي دعاك إلى أن تعطيني المنديل؟ قال: وأنت فماذا دعاك إلى أن تسقطه؟ قال: قلت لك إنه ليس لي. قال: تكذب، فإني رأيته ساقطا منك. قال: لقد تجاوزت حد الوقاحة، فلم يعد يردك غير السيف وهو أعدل حاكم. قال: فهيا بنا. قال: ليس هنا مكان البراز، أفما ترى الناس تختلف إلى الفندق وهو مكتظ برجال الكردينال، ولكنا نذهب إلى مكان لا ينفع فيه الاستصراخ، وسأراك لذلك في منزل دي تريفيل، وأنا ذاهب الآن إلى موعد ضربته. ثم انصرف وسار دارتانيان إلى كارم ريشو حيث واعد الحارسين.
الفصل الثالث
حراس الملك وشرطة الكردينال
Неизвестная страница
ولم يكن دارتانيان يعرف أحدا في باريز لقرب عهده فيها، فلم يصحب معه شاهدا للبراز، فلما بلغ ساحة الدير وجد أتوس قائما بانتظاره، فقال له: لقد قلت لاثنين من رفاقي أني سأبارزك ودعوتهما للشهادة ولم يأتيا بعد، وليست تلك عادتهما. قال دارتانيان: أما أنا فلا شاهد لي ولا أعرف سوى دي تريفيل، فقال له أتوس: إني أخشى إذا قتلتك أن يقال عني أني أبارز الصبيان. قال: لا والله، فما تبارز إلا كفؤا كريما يبوء بالملوك. قال: ذلك لأن كتفي الأيمن مصاب يضطرني إلى حمل السيف باليسرى بحيث أصير نصف رجل، ولكن لا بأس، فقد تعودت على مثل ذلك، فهلم نتحدث إلى أن يأتي الشاهدان، ولكن جازاك الله فقد آلمتني بصدمتك. قال: ألا تأذن لي بشفائك؟ قال: بلى، فما ذاك؟ قال: إن عندي مرهما عجيبا يسرع في برء الجرح، فلا يمضي عليك ثلاثة أيام حتى تتعافى بإذن الله. قال: جزاك الله خيرا، والله إنها لأخلاق الأشراف تظهر من فعالك، ولكن قد طالت غيبة الشاهدين، فما ترى؟ قال: لا أرى لك إلا أن تذهب لشأنك إذا كان لك ما يدعوك؟ قال: لا، فهذا أحد الشاهدين. فالتفت دارتانيان فرأى بورتوس مقبلا، فقال: إني أرى بورتوس. قال: وما عليك منه؟ ثم التفت فرأى أراميس فقال: وهذا أراميس، فقال: وهو شاهدك أيضا؟ قال: نعم، فنحن ثلاثة في واحد حتى نكاد نكون كندماني جذيمة لو لم نكن ثلاثة. وكان بورتوس قد وصل فسلم على أتوس ثم نظر إلى دارتانيان ووقف منذهلا، ثم قال: ما هذا؟ قال: إني أبارزه. قال: عجبا، وأنا دعوته للبراز، ثم وصل أراميس وقال: وأنا أبارزه أيضا، فما سبب برازك له يا أتوس؟ قال: لأنه صدمني في كتفي فأوجعني، وأنت يا بورتوس، فلم برازك؟ فخجل وتلجلج لسانه، فسأل أراميس، فأشار إلى دارتانيان أن اكتم أمر المنديل وقال: إني أبارزه لأمر جرى لي معه يتعلق بالدين. فتقدم دارتانيان وقال: أسألكم عفوا يا قوم، فإني واعدت أتوس أولا وقد يقتلني فأكون قد أخلفت وعدي لكما في عدم البراز، ثم شهر سيفه ووقف، فاستل أتوس سيفه وتقدم إليه، وإذا بفريق من شرطة الكردينال قد طلع عليهم يتقدمهم رئيس لهم يقال له دي جيساك، فصاح بورتوس وأراميس بالمتبارزين: أغمدا سيفيكما؛ فقد طلعت علينا شرطة الكردينال. وكانت رجال الكردينال قد دهمتهم فلم يعد لهم سبيل للتستر، فصاح دي جيساك برجاله وتقدم وقال: أفي مثل هذا المكان يكون البراز أيها الحراس؟ فقال له أتوس: دعنا في شأننا وامض لشأنك، فإنا لو رأيناك في مثل حالنا هذه ما منعناك. قال: إن ذلك لا يكون، وأنا مسئول في أمركم، فاتبعوني إذا شئتم، فقال أراميس: لقد كنا نود أن نتبعك لولا يد فوق يدنا تمنعنا، فاذهب فهو خير لك. قال: إني لا أبخل عليكم بالقوة إذا جدتم بالمعصية. فهمس أتوس في أذن أصحابه: إننا ثلاثة وهم خمسة، وقد آليت أن لا أرجع أو أقتل فهو خير لي من أن ألقى القائد مخذولا، فاحملوا، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء. فلبث دارتانيان حائرا لا يدري على أي جانبيه ينقلب، بين حرس الملك وشرطة الكردينال، ثم تقدم إلى الحراس فقال لهم: سمعتكم تقولون إنكم ثلاثة وأنتم أربعة، فقال بورتوس: أنت لست منا. قال: لئن لم يكن لي لباسكم فإن بين جنبي قلبا حرسي الأصل. فزجره دي جيساك وقال له: اعدل عن رأيك، فما لك وللتغرير بنفسك فيما لست من سيله ولا مطره. فلم يلتفت دارتانيان إليه، بل تقدم إلى أصحابه وقال: تقدموا يا قوم، فما في التأخر من فائدة، فقال له أتوس: إني أخشى عليك يا فتى أن تذهب نفسك ونحمل العار بسببك؛ إذ يقال عنا أنا كنا أربعة على حين نحن ثلاثة، وما نرى لنا فيك غناء. قال: إنك لم تعرفني بعد ولم تبلني، وسترى مني ما يسرك إن شاء الله، وأنا فلان. ثم أطبقت الفرقتان ولمعت السيوف وهجم أتوس على رجل منهم يقال له كاهيساك، وبورتوس على رجل يقال له بيكارات، والتقى أراميس باثنين، وهاجم دارتانيان دي جيساك، واشتد بينهما الصدام وكثر الضرب حتى كل دي جيساك وقد بهره دارتانيان بخفته، ثم ضربه فسقط جريحا يتشحط في دمه، ثم التفت فرأى أراميس قد قتل أحد خصميه وهو يعالج الآخر وفيه بقية جلد، وبورتوس وخصمه قد جرحا ولا يزالان يتجاولان، وأتوس قد جرح جرحا آخر ونقل سيفه إلى الشمال، فخشي عليه الغلبة فحال بينه وبين خصمه وقال: أنا لك. وضربه فقتله، فقال له أتوس: لو أبقيته، فإن لي معه شأنا. قال: سبق السيف العذل. وكان دي جيساك قد أفاق من جرحه فقال لبيكارات: سلم سيفك. فسلمه، فساقوه أسيرا إلى منزل دي تريفيل وهم لا تكاد تسعهم الدنيا لشدة سرورهم ودارتانيان بينهم والناس تجتمع عليهم في الطريق حتى صار حولهم جم غفير وكان لهم احتفال مشهود إلى أن بلغوا منزل دي تريفيل.
الفصل الرابع
لويس الثالث عشر ملك فرنسا
وشاع ذكر هذه الحادثة في باريز واشتهر أمرها وكثر تحدث الناس بها، فلما دخل الحراس منزل دي تريفيل أخذ يزجرهم على فعلهم جهرا ويهنئهم بالنصر سرا. ولما كانت أشغاله تقضي عليه بالذهاب إلى الملك ليخبره بالأمر تركهم وسار إلى اللوفر، فقيل له إن الملك في خلوة مع الكردينال فلا يدخل عليه أحد، فانثنى راجعا. ثم عاد عند المساء إلى ألعاب الملك، وكانت الملوك تقامر في ذلك العهد، فوجد الملك رابحا مسرورا، فلما رآه دعاه إليه وقال له: لقد كثرت الشكاية عليك من الكردينال، وقد شكا كثيرا من حراسك وكان غيظه شديدا حتى أثر في جسمه فمرض، وحتى قيل لي إن رجالك من شياطين الإنس. قال: لا يا مولاي، فما هم إلا نعاج في السلم أرق أخلاقا من النسيم وألين قلوبا من الماء، فلا تفارق سيوفهم أغمادهم إلا في سبيل خدمة الملك أيده الله، ولكن كيف يصنعون ورجال الكردينال يسعون في خصامهم وقتالهم، حتى أن نزالهم لم يكن إلا دفاعا، فقال الملك: إني لست ممن يأخذون الكلام على علاته، ولا أنا بقاضي جبل، ولم ألقب بالعادل عبثا، فرويدا ينكشف لنا الأمر. ثم وضع مكانه أحد النبلاء وأخذ دي تريفيل إلى نافذة هناك، فقال له: قلت إن رجال الكردينال هم البادئون بالعدوان، فكيف كان ذلك؟
قال دي تريفيل: هو أن ثلاثة من أشجع رجالي لا يجهل الملك أسماءهم وشدة غيرتهم على خدمته، وهم أتوس وبورتوس وأراميس جرى لهم حادث مزاح مع فتى غسقوني الأصل أوصيتهم به في الصباح، فانطلقوا به يعلمونه القتال في سان جرمن، ثم ذهبوا إلى ساحة كارم ريشو فكدر عليهم أمرهم دي جيساك وكاهيساك وبيكارات واثنان من شرطة الكردينال، وما أراهم على كثرة عددهم إلا قصدوا الشر والعداء، ولست أنسب لهم في ذلك ذنبا سوى أني أعرض على الملك أمرهم فيحكم بثاقب عقله ووافر عدله. قال: نعم، ثم ماذا؟ قال: فلما رأوا رجالي أخذتهم حدة الغضب ورانت عليهم سورة الحقد؛ إذ لا يجهل الملك أعزه الله أن رجاله ورجال الكردينال أعداء بالطبع. قال: نعم، وهو ما يسوءني جدا إذ أرى في البلاد حزبين متنافرين، ولكن لا بد من أن نضع لذلك حدا، ثم قلت إن رجال الكردينال هم الذين تصدوا لرجالك، أفحق ذلك؟ قال: هو ما أراه يا مولاي، ولست بجازم في الأمر. قال: علمت أنه قد كان مع رجالك فتى ليس منهم. قال: نعم، أيد الله الملك، فقد كانوا أربعة وفيهم جريح وفتى نازلوا خمسة فصرعوا أربعة منهم. قال: بخ بخ، فقد انتصروا إذن، ومن هذا الغلام الذي كان معهم؟ قال: هو فتى لا يبلغ العشرين من العمر يدعى الكونت دارتانيان، وأبوه من أقرب أصدقائي وأحسنهم بلاء مع الملك والدك رحمه الله ومتعنا بك بعده، فلما رآه رئيس حرس الكردينال أشفق عليه وأمره بالاعتزال. قال: صدقت، وهو ما يؤيد أنهم البادئون. قال: نعم أعز الله الملك، أما الفتى فلم يعتزل وقال إنه حرسي القلب مخلص للملك ورجاله، ثم حمل على دي جيساك فجرحه ذلك الجرح الذي أثار غيظ الكردينال، فقال الملك - وقد أخذه العجب: أهو الذي جرح دي جيساك، وهو أول بطل في الدولة وسنه على ما ذكرت؟! إن ذلك لا يخال. قال: نعم، ولا رد عليك يا مولاي، فقد صادف در السيل درا يصدعه، وقد قيل:
هيهات ما قلب الفتى في سنه
أبدا ولكن قلبه في صدره
قال: إني أحب أن أراه، فأتني به غدا عند الظهر ومعه أصحابه الثلاثة، فقد وجب لهم علي في ذلك شكر أفيه لهم، ثم إذا أتيت بهم فاصعد من السلم الصغير فإني لا أحب أن يعلم الكردينال بهم. قال: نعم وطاعة يا مولاي، ثم خرج فأعلم رجاله وأمرهم بالاستعداد لمقابلة الملك.
ولما كان الصباح لبسوا أحسن ما عندهم وانطلقوا بدارتانيان إلى مكان تجري فيه ألعاب السيف وفنون البراز، فأقاموا يتبارزون ووقف دارتانيان مع المتفرجين وكان في جملتهم رجل من حراس الكردينال، فلما رأى الحراس جعل الغيظ يقيمه ويقعده حنقا على حراس الملك وغيرة على أصحابه وفشلهم بالأمس، حتى رأى دارتانيان فهاج به حب الانتقام، فرفع صوته بحيث يسمعه الفتى وقال: ما أرى هذا الغلام إلا خائفا من البراز، وأظنه حرس الملك، فالتفت إليه دارتانيان وجعل يصوب نظره فيه ويصعده، فقال له: انظر إلي ما شئت، فقد قلت ما قلت. فهمس دارتانيان في أذنه أن اتبعني إذا كان في نفسك شيء، فقال له: والله لو عرفتني ما أقدمت علي. قال: ومن عساك تكون؟ قال: أنا برناجو. قال: نعم الاسم يهابه الجبان الوكل، فاتبعني فأنا في انتظارك لدى الباب ولا تعجل في لحاقي لئلا يفطن لنا الناس فيحظرونا. قال: أنصفت والله، وأنا على أثرك. فانصرف دارتانيان والرجل يعجب من شدة بأسه وسكون جأشه كيف أنه لم يهبه وقد عرف اسمه، وكان أتوس في خلال ذلك ينظر إليهما فعرف ما نويا عليه، وكان دارتانيان قد بلغ الباب فلم يلبث إلا قليلا حتى وافاه خصمه، فنظر فرأى الطريق خالية فقال له - وهو يحب التعجيل لئلا يفوته موعد الملك: لقد خلا لنا الجو فانزل. قال: أخشى أن يرانا أحد يمنعنا، فلو ذهبنا إلى ما وراء دير سان جرمن أو غيره. قال: لقد كنت أرغب في ذلك لولا أن لي موعدا يجب علي قضاؤه، ثم استل سيفه والتقاه خصمه وجرى بينهما قتال شديد جرح فيه برناجو جرحين بليغين. وكانا قد بلغا منزل دي ترمويل، فهجم عليه دارتانيان وضربه فسقط على الأرض يختبط بدماه، وإذا به يسمع صراخا في الشارع وجلبة تتزايد، وكان اثنان من أصحاب برناجو سمعا ما دار بينهما فتبعاهما، فلم يدركا صاحبهما إلا وهو صريع، فأطبقا على دارتانيان يضاربانه وإذا برفاق دارتانيان الثلاثة قد طلعوا عليهم وصاحوا بالرجلين، فخشي الرجلان الغلبة فاستنجدا بأهل المنزل فخرجوا إليهما، وكثر الجمع على حراس الملك، فاستنجدوا بأصحابهم، وتناقل الصوت حتى بلغ منزل دي تريفيل، فخرجت رجاله تصل سيوفها. وكان حرس الكردينال قد تجمعوا على الصراخ فدارت رحى الضرب، وكانت الدائرة على رجال الكردينال فانقلبوا إلى المنزل وأوصدوا أبوابه بعد أن أدخلوا الجريح في حالة الخطر، فأحاط حراس الملك بالمنزل وجعلوا يتوعدونه بالحريق إذا لم يعاقب صاحب المنزل خدمه على خروجهم عليهم، فأجاب دي ترمويل طلبهم. وكانت الساعة الحادية عشرة قد حانت، فذهب الأربعة إلى الموعد ودخلوا منزل دي تريفيل، فتلقاهم وهو يقول: هلموا إلى اللوفر على عجل لنرى الملك ونخبره بالأمر قبل وصول الكردينال. فلما وصلوا إلى القصر استأذن القائد على الملك فقيل له إنه في الصيد في غابة سان جرمن، قال: هل كان ذلك في عزمه من أمس؟ فقيل: لا، بل أتاه رجل اليوم يخبره بأنهم قد حبسوا له غزالا في الغابة ليصيده، وقد ذهب قبل الظهر بقيل، فقال لرجاله: إني أراه في المساء، فارجعوا بنا. فرجعوا.
ودخل دي تريفيل غرفته وهو يفكر في كيف يبدأ بالشكوى على حرس الكردينال، ثم أرسل إلى دي ترمويل يلتمس منه إخراج رجال الكردينال من منزله ومعاقبة خدمه بخروجهم على رجاله، ثم ذهب بنفسه بعد ذلك إلى منزل دي ترمويل فقال له: أرى أن كلا منا يود أن يشكو صاحبه، وقد أتيتك الآن لننظر على من تجب الشكوى. قال: نعم، ولكني على يقين من أن الذنب على أتباعك. قال: كيف حال الجريح؟ قال: في خطر شديد، فإنه مصاب بذات جنبه، وقد يئس منه الطبيب. قال: وهل هو مفيق؟ قال: نعم، ولكنه يستصعب الكلام. قال: فلو نزلنا إليه نقصه الأمر ونعزم عليه بالتزام الصدق في الحكاية؟ قال: نعم. ونزلا إلى غرفة الجريح، فاحتفز للقيام فلم يقدر، فدنا منه دي ترمويل وسأله عن القصة فسردها لا يخل بحرف منها حتى أتى على آخرها، فاستأذن دي تريفيل ودعا للجريح بالشفاء وذهب إلى منزله، فدعا رجاله الأربعة وجلس معهم على الطعام يؤاكلهم ويثني على شجاعتهم ولا سيما دارتانيان حتى كانت الساعة السادسة، فذهب بهم إلى اللوفر، ودخل معهم من الباب الكبير لأن ميعاد الملك كان قد فات، ووقف وإياهم في ساحة القصر وإذا بالناس يقولون: جاء الملك، ثم دخل الملك لابسا ثياب الصيد وفي يده مخصرة، فمر بالحراس ودخل إلى مجلسه، فقال لهم دي تريفيل: أنظروني عشر دقائق، فإن خرجت إليكم وإلا فارجعوا إذ لا تعود فائدة من الانتظار. ودخل فأقام الحراس ينتظرونه حتى فات الميعاد ولم يخرج فانصرفوا راجعين.
Неизвестная страница
وكان دي تريفيل قد دخل على الملك فوجده يشكو من الصيد ومتابعة الكردينال له في الكلام عن إسبانيا والنمسا وإنكلترا حتى قال له: إني غير راض عنك يا دي تريفيل. قال: لماذا، وأطال الله بقاء الملك؟ قال: لشدة وقاحة رجالك واستبدادهم حتى كادوا يحرقون باريز اليوم وأنت ساكت لا تردهم، وحتى هجم الأربعة الذين ذكرت لي على برناجو فجرحوه إلى الموت، ثم حاصروا منزل دي ترمويل وكادوا يحرقونه حتى خلت والله أن الحرب قد نشبت في فرنسا، ولعلك تنكر ذلك. قال: وممن سمعت هذا يا مولاي؟ قال: ومن عساه يكون سوى الكردينال القائم بأمر الملك حتى كفاني مئونة سياسته. قال: لعله غير مصيب في الرواية يا مولاي، وجل من لا يخطئ. قال: صدقت، أما الذي أخبرني بهذا الأمر فهو دي ترمويل. قال: لو أمر مولاي بإحضاره الآن وسؤاله. فدعا الملك بالحاجب فقال: علي بدي ترمويل في الحال، فقال دي تريفيل: ولكن تعدني يا مولاي بأنك لا تقابل أحدا بين مقابلتي ومقابلته. قال: لا، وموعدنا غدا إن شاء الله في أي ساعة جئت، ولكن حذار من أن يكون رجالك هم المخطئون. قال: إذا كانوا مخطئين فهم بين يدي الملك يجري عليهم عدله. قال: نعم، إلى غد. فدعا له دي تريفيل وخرج. فأوعز إلى رجاله بالمجيء إليه عند الساعة السادسة صباحا ففعلوا، وذهب بهم إلى السلم الصغير وقال لهم: إذا وجدت الملك راضيا عنكم دعوتكم وإلا أشرت لكم بالانصراف، ثم دخل، فلما بلغ ساحة القصر أخبره الحاجب أنه ذهب أمس إلى دي ترمويل فلم يجده وأنه الآن عند الملك، ولم يمض غير قليل حتى خرج دي ترمويل من قاعة الملك، وقال لدي تريفيل: لقد دعاني الملك ليعلم مني تفاصيل حادثة أمس، وقد أخبرته أن الذنب على خدمي وأنه يجب علي أن أعتذر إليك. قال: حياك الله، فهكذا كنت أرجو منكم، ومثلك من قضى الحق وحكى بالحق. وكان الملك واقفا على عتبة الباب يسمع ما دار بينهما فقال: أحسنتما وأبي، وأنا أرجو من الدوق دي ترمويل أن لا ينقطع عني لأنه صادق أمين، فلينصرف الآن، وأنت أين رجالك؟ قال: في انتظار أمرك يا مولاي. قال: علي بهم. فذهب الحاجب وعاد بهم حتى أوقفهم بالباب، فأشار إليهم الملك بالدخول وقال: لقد زاد أمركم وعظمت شجاعتكم يا قوم، أتقتلون سبعة من رجال الكردينال في يومين؟ إنه لأمر لو تعلمون عظيم، ثم نظر إلى دارتانيان وقال له: تقدم يا بني، فقد بلغني عنك أنك فتى وأنا أراك غلاما مراهقا، ثم التفت إلى دي تريفيل فقال: هذا الذي جرح دي جيساك؟ قال: نعم بسيفك يا مولاي، وجرح برناجو أيضا. فقال أتوس: ولو لم يخلصني من يد بيكارت لما أسعدني الحظ بالمثول في جنابك يا مولاي. قال: ولكني أرى أهل غسقونية على جانب من غثاثة العيش وقلة ذات اليد، وما ذاك إلا لقلة معادن بلادهم. ثم دعا بالحاجب فقال له: انظر في جيبي لعلك تجد شيئا من الدنانير فأتني به. ثم قال لدراتانيان: قص علي الحادثة ولا تفت منها حرفا. فمضى الفتى يقصها مضي الجواد في سنن ميدانه حتى أتى على آخرها، فقال له الملك: صدقت، فهكذا سمعتها، عزى الله الكردينال، فقد فقد سبعة من أعز رجاله عليه، وفي ظني أن ذلك يكفيكم في نظير أخذ الثأر، ثم أخذ من يد الحاجب قبضة من الدنانير فوضعها في يد دارتانيان، فأخذها وشكر، فقال لهم الملك: انصرفوا الآن، فإن علي موعدا. فخرجوا وهم يضجون له بالدعاء، ثم قال لدي تريفيل: كنت أود أن يكون هذا الفتى في جملة الحراس لولا ضيق المقام عنه، ولكن ضعه في جملة حرس ابن أختك دي زيسار، ودع الكردينال يرغي ويزبد، فما علي إذا كان العمل عدلا. ثم خرج. أما الكردينال فأقام ثمانية أيام لا يحضر ألعاب الملك.
الفصل الخامس
الحراس في أنفسهم
ولما فصل دارتانيان وأصحابه عن قصر اللوفر اقترحوا عليه طعاما فأجابهم وأكلوا جميعا، وكان يخدمهم على الطعام خادم بورتوس ويدعى موسكتون، وكان شديد الإخلاص لسيده، وهو بيكاردي الأصل. أما أتوس فكان له خادم يدعى كريمود، وكان أتوس كثير السكوت قليل الهذر قلما يتكلم أو يضحك ملء فيه، وإذا تكلم كان كلامه على غاية الاختصار والإيجاز، ولم يكن يعشق امرأة قط وإن يكن بلغ الثلاثين من العمر على جماله وحسن قوامه وتوقد ذهنه حتى لم يسمعه أحد يذكر النساء. وكان قد أدب خادمه على أن يفهم منه لأول إشارة وأقل رمز، فلم يكن يكلمه إلا عند الضرورة. أما بورتوس فكان مغايرا بالجملة لأتوس بكثرة كلامه وعلو صوته وحبه للملاهي والضحك، وكان يتعشق أميرة غريبة البلاد. أما خادمه موسكتون فكان مثله وهو نورماندي الأصل. وأما أراميس فكان له خادم يدعى بازين قليل الكلام والتعرض، مطيع لكل ما يؤمر به. وأما خادم دارتانيان فكان يدعى بلانشت.
وإذ قد عرفنا خدم الثلاثة نلمع قليلا إلى مسكن كل واحد منهم، فقد كان أتوس ساكنا في شارع فيرو على مقربة من ليكسمبرج في بيت صغير تخدمه فيه فتاة. وكان بورتوس نازلا في شارع برج الحمام القديم في منزل واسع إلا أنه كان قلما يأتيه بحيث لا يكاد يوجد فيه إلا خادمه موسكتون. وكان منزل أراميس في مكان حسن تحيطه حديقة مزهرة يرتاح النظر إليها. وأما دارتانيان فقد عرفنا منزله وخادمه، وكان لا يعرف من أصحابه الثلاثة إلا أسماءهم الغريبة يخفون تحتها أسماءهم العريقة في المجد والشرف، فكان يستخبر من كل منهم عن صاحبه فلا يخبره إلا عن ظاهره، فاجتمع ذات يوم بأراميس وأراد أن يعلم منه صحة ما هو شائع عن عشق بورتوس لامرأة شريفة غنية فقال له: إني أراك تردد كثيرا أسماء الأميرات وعقائل النساء، فما سبب ذلك؟ قال: إني لا أتكلم إلا نقلا عن صديقي بورتوس، وأنا قليل الرغبة في مثل ذلك. قال: إذا كنت كما تزعم فأنى لك ذلك المنديل الذي كان وصلة للتعارف بيننا؟ قال: هو منديل نسيه عندي أحد أصحابي، ولعله من صديقة له. قال: إني أعجب منك كيف أنك في مقام الحراس ولا رغبة لك في النساء. قال: ذلك لأني ناسك في ثياب حارس. قال: ألا تحدثني ببعض الشيء عن أصحابك؟ قال: أما الآن فلا سبيل إلى ذلك، فإن لي شأنا يدعوني، فأستودعك الله. ثم حياه وذهب. فلبث دارتانيان حائرا في أمر هؤلاء الثلاثة لا يهتدي منهم إلى وجه، ثم ترك الأمر للتقادير وتمثل:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وكان اثنان من الحراس يحبان المقامرة إلا أراميس فلم يكن يتعاطاها قط. وكان الأربعة عائشين عيشة راضية، يتلقون أوامرهم كل صباح فيعاونهم فيها دارتانيان وإن لم يكن منهم، فكانوا يحبونه حبا شديدا. ولم يمض عليه قليل حتى أمر الملك دي زيسار أن يستنيبه في أمره ويجعله ثانيه في المرتبة، فسر دراتانيان من ذلك لأمله بنوال رتبة بين الحراس، وقد زاد أمله وعد دي تريفيل له أنه إذا مضى عليه سنتان في الخدمة، وهو قائم بما يرضي الملك، يرقيه إلى رتبة الحراس، وكان يعاونه في أعماله ومهماته رفاقه الثلاثة.
الفصل السادس
دسيسة في قصر الملك
Неизвестная страница
ولما نفدت دراهم الملك مست الحراس العازة وأحوجهم الأمر إلى القوت، فجعلوا يتداعون وغلمانهم إلى أصحابهم ويتطفلون على معارفهم، ولم يكن لدارتانيان صاحب سوى قسيس من بلاده كان يدعو إليه رفاقه فيتركون بيته كبيت العنكبوت. وحدث أنه بينما دارتانيان في منزله دخل عليه خادمه يستأذنه لرجل يريد مقابلته، فأذن له، فدخل الرجل وقال لدارتانيان: قد سمعت بشهرتك وبعد صيتك في الشجاعة وكرم الأخلاق، فأتيتك أستودعك سرا. قال: إني إذن أرعاه. قال: إن لي امرأة صبوحة الوجه صناع اليدين تغسل ثياب الملكة في القصر، وقريبها دي لابورت وصيف الملكة، وهو الذي سعى لها بهذه الخدمة، فبينما هي خارجة أمس من القصر خطفها رجل ومضى بها ولا سبيل لي إليه، فأغثني أغاثك الله. قال: ومن هو الرجل؟ قال: لا أعرفه، سوى أني ألقيت الشبهة على رجل كان لا يفتر عن تتبعها، وأنا أرى أن لاختطافها سببا سياسيا لا دخل للعشق فيه، ولا أظن ذلك السبب إلا امرأة أعظم منها كثيرا. قال: ومن تراها تكون؟ هل هي بواتراسي؟ قال: هي أعظم من ذلك. قال: فأكويليون؟ قال: أعظم. قال: فشفريز؟ قال: بل هي أعظم جدا يا مولاي. قال: لم يبق إلا ... (يريد الملكة). قال: هي بعينها. قال: ومن أيضا؟ قال: لا أظنه إلا الدوق دي ... (يريد بيكنهام). قال: ومن أدراك بكل هذا؟ قال: أخبرتني به امرأتي. قال: وأنى لامرأتك ذلك؟ قال: من دي لابورت وصيف الملكة، وهو الذي جعلها عندها تكل إليها أمورها في انقطاع الملك عنها من بغضه وخداع الكردينال إياها واطراحها من الجميع، وما أرى هذا الأمر إلا انتقاما من الملكة، فإنهم زوروا عنها كتابا إلى الدوق دي بيكنهام يغرونه بالمجيء إلى باريز ليوقعوا به وهو عشيقها. قال: وما دخل امرأتك في مثل هذه الأمور؟ قال: إنهم يعرفون إخلاصها للملكة ومفاداتها لها؛ ولذلك فقد رأوا إبعادها عنها لتكون في يدهم آلة يستعينون بها على الملكة. قال: أما تعرف الذي خطفها؟ قال: لا، وما أظنه إلا من أتباع الكردينال، ولا أعرفه إلا إذا رأيت وجهه؛ لأن امرأتي أشارت لي إليه، وهو رجل طويل القامة أسود الشعر في خده ندبة، فقال دارتانيان: خصمي والله الذي سرقني في مينك، فإذا انتقمت منه يكون انتقامي مزدوجا، فأين أقدر أن أراه؟ قال: لا أعلم يا مولاي سوى أني رأيته مرة واحدة كما قلت لك. قال: فما اسمك؟ قال: بوناسيه صاحب هذا البيت الذي أنت تسكنه. قال: أما عندك غير شيء على امرأتك؟ قال: نعم، رسالة وصلتني وهي هذه. فأخذها دارتانيان وقرأ: «لا تتعب في السعي وراء امرأتك، فإنها ترد إليك عند عدم الحاجة إليها، وإذا سعيت فأنت هالك.»
فقال الرجل: كيف أصنع يا مولاي ولست من رجال الحرب ولا طاقة لي على سجن الباستيل؟ فأسعفني في أمري يكن لك فضل علي وعلى الملكة، وتكون قد رغمت أنف الكردينال عدوكم وعدوها، وأنا أقدم لك هذه الخمسين دينارا تستعين بها على أمرك. ثم حانت منه التفاتة إلى النافذة فقال: هذا هو يا مولاي. فنظر الفتى فعرف خصمه، فقال: إذن والله لا يفلت مني في هذه المرة أبدا. ثم شهر سيفه وانحدر من السلم فصادف أتوس وبرتوس آتيين إليه، فمالا من طريقه وصعدا، وذهب وهو يقول: وجدته وجدته. ثم طاف كل تلك السكك والأزقة فلم يقف له على أثر.
وكان أراميس في خلال ذلك قد صعد وراء صاحبيه، فعاد دارتانيان فوجد الثلاثة مجتمعين، فقالوا له: مهيم؟ قال: طلبته فما وجدته، فوالله لكأنه ذهب بين سمع الأرض وبصرها، ومهما يكن فإنه قد أضاع علينا عملا لنا فيه أكثر من مئة دينار. قالوا: وكيف ذلك؟ فقص عليهم القصة، فقالوا: ما لنا ولها؟ قال: إن الأمر لا يتعلق بها وحدها، فإن للملكة فيها أجل نصيب. قالوا: وما لنا وللملكة وهي تحب الإنكليز والإسبان أعداءنا الألداء؟ قال: أما الإسبان فلأنهم قومها، وأما الإنكليز فلا تحب منهم إلا رجلا. فقال أتوس: لعمري أنه جدير بأن يحب، فإني لم أر مثله في الجمال والكرم، أتذكرون يا قوم يوم نثر اللؤلؤ في قصر اللوفر، فكنا نلتقط منه كما نلتقط البرد؟ قالوا: نعم نذكره ولا ننساه، فقال دارتانيان: إني لا أحب بيكنهام وإيصاله إلى الملكة، إلا كيدا للكردينال، وما أظن اختطاف هذه الامرأة إلا لهذا الشأن وأن بيكنهام في باريز. قال أراميس: اسمعوا أقص عليكم أمرا، إني كنت أمس عند أحد أصحابي وله ابنة أخ جاءت إليه ثم همت بالانصراف فرافقتها إلى العربة وأنا مشتمل بعباءتي، وإذا أنا برجل دنا مني ووراءه ستة رجال، فقال لي: اصعدا إلى هذه العربة يا دوق ولا تحاول خلاصا، فكشفت عباءتي فلما رآني ورأى ثيابي تركني وانصرف، وما أراه إلا حسبني بيكنهام وحسب الفتاة الملكة، وهو دليل على أن بيكنهام في باريز وأنهم يسعون في القبض عليه. فقال دارتانيان: ألا نبحث عن هذه المرأة؟ قالوا: إن ذلك لا يكون أبدا، فإنها وضيعة النسب لا تستحق العناء في البحث عنها، ومهما تكن فساوم زوجها بثمن غال في تفتيشك. قال: لا بد لي من البحث عليها، ولو لم آخذ من زوجها شيئا، فإن لي جزاء من غيره، ولعلكم لا تجهلون. وما أتم كلامه حتى دخل عليهم صاحب الفندق وهو يستغيث ويقول: أغيثوني، فإن أربعة من الجند يطلبوني. فقام برتوس وأراميس ووضع كل يده على قائم سيفه، فمنعهما دارتانيان وقال: إنه موقف لا تغني فيه السيوف، فالرأي قبل شجاعة الشجعان. فقال أتوس: صدق دارتانيان، فلنكل إليه أمرنا. وإذا بأربعة من الجند قد هجموا على القاعة حتى رأوا الحراس، فوقفوا هيبة منهم، فقال لهم دارتانيان: ادخلوا يا قوم فإنكم في منزل رجل مثلكم يخدم الملك والكردينال، فقال له زعيمهم: إذا كنت كذلك فما نراك مانعا عن إتمام ما أمرنا به. قال: لا، بل نساعدكم إذا قضت الحاجة. فقال بوناسيه صاحب الفندق: لقد أجرتموني، فكيف تخفرون الذمة؟ فقال له دارتانيان بصوت خفي: إنا نسعى في خلاصك بالحيلة، فلو منعناك لاتهمونا بك وأخذونا معك. ثم قال للجند: إنه رجل لا أعرفه إلا في هذه الساعة، فشأنكم به؟ ثم همس في أذنه أن اسكت ولا تنطق علينا بشيء فإنك تضرنا وتضر بالملكة. ثم دفعوه إليهم فأخذوا وانصرفوا، وعرف دارتانيان أن اسم زعيمهم بوازرنار، فلما خلا البيت قال لهم بورتوس: أف لكم، أتخفرون الذمة وتسلمون رجلا لجأ إليكم واستغاث بكم؟ قالوا: بل هو الصواب، فلنتعاقد الآن على أن نكون جميعا فدى عن واحد منا ويكون كل منا فدى عن الجميع. فتعاقدوا وانصرفوا كل منهم إلى مكانه.
الفصل السابع
امرأة صاحب الفندق السبية
وبعد أن ذهب الجند بالرجل أقام الرفاق الأربعة يبحثون عليه فلا يقفون له على خبر، وكان بيته تحت بيت دارتانيان، فاقتلع الفتى عدة أخشاب من أرض البيت بحيث صار يسمع ويرى ما يجري في بيت الرجل، فبينا هو جالس ذات يوم إذ سمع صراخ امرأة تستغيث في بيت صاحب الفندق وسمع قوما يسألونها الإقرار وهي تأبى وتصر على الكتمان ، حتى قالت لهم: أنا بوناسيه صاحبة البيت، إحدى تابعات الملكة، فقالوا لها: أنت بغيتنا. وأخذوا يجرونها وهي تدافع وتستغيث، فثارت الحمية في رأس دارتانيان فتقلد سيفه، ودعا بغلامه فقال له: اذهب وادع لي أتوس وبرتوس وأراميس من منازلهم، وقل لهم أن يسرعوا. قال: وإلى أين تمضي يا مولاي؟ قال: أتدلى من النافذة، فاصدع بما أمرتك به. قال: نعم. وذهب ونزل دارتانيان فقرع الباب، فسكنت الجلبة وهدأ الصراخ، ثم فتح له الباب، فدخل بسيفه شاهره وأغلق الباب وراءه، فرأى أربعة رجال سود الملابس بغير سلاح، فهاجمهم بسيفه، فتلقوه يدافعون عن أنفسهم بأمتعة البيت فلم يقدروا عليه، فتركوا الامرأة وفروا هاربين، فلما خلا البيت نظر الفتى إلى الامرأة فوجدها على غاية من الجمال والصباحة، تكاد تأخذها العين لحسنها، ثم حانت منه التفاتة فرأى في الأرض منديلا كالذي رآه مع أراميس، فأخذه ووضعه في جيبها وكانت على وشك الإغماء مما حل بها، فلما أحست بيد الفتى انتبهت وقامت إليه تشكره وتدعو له، فألطف لها في الجواب وقال لها: إن القوم الذين هجموا عليها ليسوا لصوصا، ولكنهم من رجال الكردينال الذين أخذوا زوجها أمس إلى سجن الباستيل. فقالت: ويلاه، وما ذنبه حتى يقاد إلى السجن؟ قال: لأنه زوجك فيما أظن، وأنت سبية الكردينال. قالت: أوتدري من سباني؟ قال: نعم، رجل صفاته كيت وكيت. وشرح لها صفات خصمه. قالت: نعم هو، أوتعرف اسمه؟ قال: لا. قالت: ومن أين درى زوجي أني اختطفت؟ قال: من رسالة وصلته، وهو يرى لاختطافك أمرا سياسيا يتعلق بالدولة، فكيف خلصت من حبسك؟ قالت: غفلوا عني فتدليت من النافذة وخلصت إلى بيتي لعلي أرى زوجي. قال: وما عساه أن يمنعك وهو لا يمنع نفسه؟ قال: ليس ذلك من قصدي، ولكن لي معه شأنا. قال: وما ذاك؟ قالت: سر لا يد لي في إفشائه. قال: أفلا نخرج من هنا، فإن أصحابك لا يبرحون أن يرجعوا بالسلاح فيفوت الخلاص. قالت: وإلى أين نمضي؟ قال: متى خرجنا نرى رأينا. ثم أخذ بيدها وخرج بها حتى أبعد عن البيت، فقالت له: وإلى أين نذهب الآن؟ قال: لا أعلم والله، إلى أين تريدين؟ قالت: أريد أن أخبر دي لابورت بما جرى، ثم أعلم منه ماذا كان في اللوفر من ثلاثة أيام، وهل أنا آمنة إن عدت إليه. قال: أنا أمضي في ذلك. قالت: لا تقدر، فإنهم لا يعرفونك بل يعرفون زوجي. قال: أما لك من يعرفك هناك فأمضي إليه بعلامة منك؟ قالت: نعم، على أن تعاهدني أنك لا تستعمل علامتي التي أعطيك في غير هذا الشأن، ولا تستخدما لمأرب في نفسك إن كان لك مأرب. قال: لا والله، فهل من يعرفك فآخذك إليه؟ قالت: لا أسترسل إلى أحد. قال: لا تخافي، فنحن على مقربة من بيت صديق لي يدعى أتوس فأضعك فيه فلا يراك أحدا. قالت: أحسنت، فهيا بنا إليه. فسار بها حتى بلغ منزل أتوس فأودعها فيه، وقال لها: أقفلي عليك الباب ولا تفتحي إلا إذا سمعت ثلاث طرقات متتابعة. قالت: نعم، فاسمع العلامة التي طلبت، تذهب إلى قصر اللوفر من جهة شارع أشيل وتسأل عن رجل يدعى جرمان، فتقول له «توروبروكسل» فيمضي في كل ما ترسمه له، فتطلب منه أن يدعو لك دي لابورت وصيف الملكة فتبعث به إلي، وكن على يقين من أني أراك لأفيك بعض حقك. قال: نعم. ومضى ففعل كما قالت له غير مخل بحرف. ثم ذهب إلى دي تريفيل فاستأذن عليه فأذن له، فدخل إلى البهو وأقام ينتظر، واغتنم فرصة غيابه فأخر عقرب الساعة خمسا وأربعين دقيقة، ثم جاء دي تريفيل فقال: ما بدا لك لزيارتنا، فإني أظن الوقت قد فات، ثم نظر إلى الساعة فقال: لا والله، بل هي الساعة التاسعة ونصف وقد كنت أظنها أكثر. فأخذ دارتانيان يقص عليه قصة طويلة بشأن الملكة وبيكنهام وغيرهما حتى صارت الساعة العاشرة وخرج، فلما قفل دي تريفيل إلى غرفته عاد دارتانيان فرد عقرب الساعة إلى ما كان عليه وذهب.
الفصل الثامن
تدبير الحيلة
ولما نزل دارتانيان من منزل دي تريفيل أخذ يفكر في محبوبته بوناسيه التي سلبت لبه ووقعت في قلبه موقعا لا يقوى على إيضاحه لسانه، وحاله تنشد:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
Неизвестная страница
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فكان ينظر إلى نجوم السماء تارة ثم يعود إلى أفكاره تارة أخرى وهو سائر يستحثه الشوق وتحدوه الصبابة، غير ناظر إلى ما تستلزمه النساء من النفقات على قلة ماله وضيق ذات يده، بل عزم على أن يكون عشيقا رفيقا وصديقا صدوقا، غير ملتفت إلى زوجها وخلاصه. ولم يزل سائرا على حاله تلك حتى بلغ الشارع الذي يسكن فيه أراميس، فخطر له أن يصعد إليه ويخبره عن سبب إرسال خادمه له في طلبه، وكانت الساعة الحادية عشرة مساء وقد أقفرت الطرق وهدأ الليل، فلما صار تجاه بيت صاحبه إذا به يرى شبحا يمشي في الطريق ملتفا بعباءة فظنه رجلا لأول وهلة إلا أنه لما تأمله ورأى صغر قامته علم أنه امرأة، وكانت تسير وهي شاخصة إلى النوافذ في ذلك الشارع كأنها في ريب من وجهتها، فتلتفت وراءها ثم تعود فتمشي، فخطر للفتى أن يلحقها فيرافقها إلى حيث تقصد، ثم رجع عن قصده لعلمه أنها ذاهبة لموعد عشق، فجعل ينظر إليها وهي تسير حتى بلغت منزل أراميس فظن أنها عشيقته وتوارى في زاوية الشارع، فوقفت الامرأة لدى الباب فسعلت ثم طرقت الباب ثلاث طرقات، ففتح لها ودخلت، ثم أقفل وراءها، فأقام دارتانيان يحدق ببصره في نوافذ البيت حتى لاح له نور في إحدى غرفه ورأى المرأة قد أخرجت من جيبها منديلا فأعطته لشخص معها وهو كالمنديل الذي رآه تحت رجل أراميس، فأخذ يفكر فيما عساه أن يكون هذا المنديل، ثم تحول إلى الجهة الأخرى بحيث قابل النافذة، فرأى أن الذي مع المرأة امرأة مثلها تعطيها منديلا آخر كالذي كان معها، ثم خرجت ونزلت في الشارع وسارت من حيث أتت فمرت بقرب دارتانيان ولم تره، فنظر إليها وإذا بها بوناسيه، فأخذ يفكر في أمرها وسبب مجيئها وهو يظن أن لها صديقا حتى خطر له أن يتبعها، فسايرها حتى أدركها وهي مبهورة تلهث من التعب والخوف، فألقى بيده على كتفها فوقعت إلى الأرض وقالت له وهي لا تعرفه: اقتلني فلا أخبرك بشيء. فأنهضها ونظرت إليه فعرفته فصاحت: هذا أنت؟ قال: نعم، فقد بعثني الله لحراستك. قالت: أفي مثل هذه الحال تتبعني؟ قال: لا والله لم يكن ذلك من عزمي سوى أن الاتفاق قيض لي أن أراك تطرقين باب أحد أصحابي. قالت: وأي أصحابك تعني؟ قال: أراميس. قالت: إني لم أسمع قط بهذا الاسم. قال: لا تحاولي الإنكار. قالت: والله لا أعرفه ولم آت هذا البيت إلا الآن وأنا لا أدري أنه لأحد أصحابك الحراس، وفوق ذلك فإني لم أكن لآتية إلا في طلب امرأة. قال: أليست من ذوي قربى أراميس، فإني أراه يسكن عندها. قالت: لا أعلم، فإن ذلك سر لا قدرة لي على إفشائه، فإن شئت فرافقني إلى حيث أمضي. قال: وإلى أين تمضين؟ قالت: ستعلم متى وصلنا. قال: وهل أنتظرك إلى أن تخرجي؟ قالت: لا. قال: أتخرجين وحدك؟ قالت: لا أدري. قال: أنا إذن أنتظر خروجك. قالت: إذا كان ذلك من عزمك فأنا أذهب لشأني وحدي. قال: وعلام دعوتني إذن؟ قالت: دعوتك رفيقا لي لا محافظا علي. قال: انطلقي بنا، فأنا على ما ترومين. قالت: أتتركني عند الباب كما قلت لي؟ قال: نعم. فاستحلفته، فأقسم لها وسار بها حتى بلغ شارع لاهارب، فتقدمت إلى باب هناك وشكرت دارتانيان وقالت له: اذهب، فقد وصلت. قال: وكيف ترجعين؟ أما تخشين أحدا؟ قالت: لا أخشى سوى اللصوص، وأنا لا مال معي، فلا خوف علي منهم. قالت: أراك قد نسيت المنديل المذهب الذي رأيته تحت رجلك فرددته إليك وأنت مغشي عليك. قالت: صه وإلا هلكت. قال: أرأيت كيف أنك في خطر؟ أفلا تسمحين لي بالبقاء في انتظارك وأنا أعدك بكتمان سرك.
قالت: لو كان سري لاستودعتك إياه، ولكنه سر غيري، فلا قبل لي بالإباحة به، فإياك والتداخل فيه، وهذه نصيحتي لك. قال: أفأراميس أحق به مني؟ قالت: ألم أقل لك أني لا أعرفه وأنت تردده، وما أظن هذا الاسم إلا حيلة استنبطتها لتقف على ما أكتم من أمري. قال: لله أنت، أما والله لو فتشت قلبي لسرك ما يجول فيه من غرامك، فبثيني دخيلة سرك. قالت: سرعان ما بدأت بالعشق. قال: لسرعة ما داخلني وأنا حدث لم أبلغ العشرين، ثم اعلمي أن هذا المنديل قد كان سبب براز جرى لي مع أراميس، أفلا تخشين العقاب إذا أخذت وظهر معك؟ قال: ماذا علي وعليه من اسمي ولقبي أولهما وهما الكاف والباء إشارة إلى كونستانس بوناسيه. قال: لا، بل إشارة إلى كاميل دي بواتراسي. قالت: بالله ألا ما سكت، فإن كنت لا تخشى على نفسي فخف على نفسك. قال: وما يخيفني؟ قالت: أخشى عليك عذاب السجن ووقفة الموت إذا عرفوا أنك تعرفني. قال: إذن لا أدعك. قالت: نشدتك الله أن تتركني، فهذا نصف الليل وأصحابي في انتظاري، ثم مدت له يدها قبلها وقال: يا ليتني لم أرك. قالت: لا تيأس من رحمة الله، فعسى أن يهدأ بالي فينالك مني نصيب وأنا لك على العهد، فدعني الآن وامض لشأنك. فودعها وانصرف وفتح لها الباب فدخلت.
فلما بلغ دارتانيان بيته قال له الخادم إن أتوس قد أتى إليك وأقام ينتظرك، وإذا برجال الكردينال الذين هربوا منك قد هجموا عليه وأخذوه وهم يحسبونه أنت، فلم يدفعهم بل همس في أذني أن سيدك أحوج إلى الإطلاق مني، أما أنا فلا يلبثون أن يخلوا سبيلي، ثم أخذه اثنان منهم ولا أدري إلى أي سجن، الباستيل أم غيره، وأقام الاثنان الآخران يبحثان في متاع البيت وصناديقه حتى لم يدعا شيئا مكنونا. قال: وأين برتوس وأراميس؟ قال: لم أجدهما. قال: إذا حضرا فقل لهما ينتظراني في فندق كذا، فإن بيتي هذا قد أصبح مظنة بحث، وإياك أن تنتقل من مكانك ولو مت. ثم انطلق دارتانيان يعدو إلى منزل دي تريفيل فقيل له إنه في اللوفر، فقال في نفسه: لا بد من إخباره. ثم انطلق إلى اللوفر مسرعا ، وإذا هو برجل وامرأة يمشيان أمامه، وكانت المرأة كونستانس بوناسيه والرجل يشبه أراميس وهو في لباس الحراس مقنعا وجهه كأنه يريد أن لا يعرفه أحد، فثارت الغيرة في قلب دارتانيان وأسرع حتى سبقهما، ثم كر راجعا عليهما ووقف في وجه الرجل يحدق به، فتأخر الرجل منه عن إجفال ورهبة، فقال له دارتانيان: ظننتك أراميس. فقال: أخطأ ظنك، وأنا أعذرك. فقال: وعلام تعذرني؟ قال: لأنك عارضتني ولست بصاحبك ولا شأن لك معي. قال: ولكن لي شأن مع رفيقتك هذه. قال: ومن أين تعرفها؟ فقالت كونستانس: أما استحلفتك يا دارتانيان؟ فاذكر اليمين لا تغدو غموسا. فقال لها رفيقها: انطلقي بنا فقد ضاع علينا الزمان. فاعترضه دارتانيان ومنعه من المسير، فدفعه الرجل بيده ومر، فشهر الشاب سيفه وقابله الرجل بسيفه وهما بالقتال، فحالت المرأة بينهما وقالت: لا تفعل بالله يا ميلورد. فأجفل الفتى لهذا الاسم وقال: وأي ميلورد؟ فهمست في أذنه: اللورد بيكنهام. فقال دارتانيان - وقد نكس سيفه: عفوا يا ميلورد، فقد ظننتك عشيقها، وأنا أحبها وأغار عليها، فهل من خدمة أبذلها لك؟ فشكره اللورد وصافحه وقال له: اتبعني عن بعد، فإذا عارضني أحد فلا تبخل عليه بالسيف. قال: نعم وكرامة يا مولاي. وتبعه حتى دخل اللوفر هو والامرأة من باب آخر، فتركهما وعاد إلى صاحبيه، فقال لهما إنه قضى الأمر وحده، ووجد الامرأة ثم انصرف كل منهم إلى منزله.
الفصل التاسع
جورج فيليه دوق دي بيكنهام
فدخلت كونستانس باللورد إلى قصر اللوفر بدون معارض، وسارت به في دهليز طويل حتى انتهت إلى باب فدفعته فانفتح فدخلت به تقوده في ظلام حالك وهي كأنها على نور؛ لمعرفتها بمخارج القصر وطرقه؛ حتى انتهت إلى سلم فصعدتها، ثم مالت إلى يمينها وسارت في نفق، ثم نزلت إلى دار ففتحت فيها بابا وأدخلت اللورد إلى غرفة منارة، وقالت له: أنظرني حتى أرجع إليك، ثم خرجت وأوصدت الباب عليه، فأقام في تلك الغرفة بقلب يخفق لقرب اللقاء، ولا أثر فيه للخوف لما تعوده من اقتحام الأخطار وخوض المهالك، ثم دنا من مرآة في الحائط وأخذ يصلح من شأن ثيابه، وكان أجمل رجال عصره وأشجعهم في فرنسا وإنكلترا، وأوفرهم ثروة وأوسعهم كرما وأكثرهم تقدما في الدولة؛ حتى عشقته حنة دوتريش ملكة فرنسا. وفيما هو كذلك وإذا بباب ضيق قد فتح في الجدار ودخلت منه الملكة بوجه كالبدر جمالا وقد كالغصن اعتدالا، يقطر من وجهها ماء الملاحة والظرف، بعينين قال الله كونا فكانتا، فعولين بالألباب ما تفعل الخمر. فدهش اللورد لجمالها ولاحت له بثوب التفضل أجمل وأبهى مما كان يراها عليه في مراسح اللهو والطرب، ترفل بالدمقس وبالحرير، وتخطر في الحلي والجواهر. وكان عمرها يومئذ خمسا وعشرين سنة، وهي في ريع الشباب ومقتبل العمر ودولة الجمال، فجثا اللورد أمامها وقبل طرف ثوبها، فأنهضته وقالت له: إنك تعلم يا لورد بأني لم أكتب لك بالمجيء. قال: لا وحياتك ما دعاني إلا شدة العشق وحر الصبابة ونار الشوق، وأهون بما أقاسيه في طريقي إليك عند مرآك. قالت: نعم، إني لم أفسح لك في زيارتي إلا لأقول لك أن مقامك في هذه البلاد على خطر الموت لك والفضيحة لي، ولست تجهل كم يحول دوننا من موانع اللقاء بين لجة البحر وتنافر الملوك وبعد النزعة وكثرة الرقباء، وهو ما دعوتك لأظهره لك وأعلمك أن لا لقاء ولا اجتماع، فقال: تكلمي أيتها الملكة ما شئت، فإن لين لفظك يمحو قساوة معناه، فهو كالسيف في لين صفحته ومضاء حده. قالت: كأني بك قد نسيت أني لم أقل لك قط أني أحبك. قال: نعم، وهو كلام يحط من وفائك في جانب عشق أنا منه بين الجنون والمنون، لم تصدني عنه رهبة ولم يرهبني صد، حتى كان واحدا من يوم رأيتك أول مرة من نيف وثلاث سنين، حتى إني لأقدر الآن أن أصف لك هيئة ثيابك؛ لشدة رسوخ صورتك في ذهني وانطباعها على قلبي، فكأني بك وأنت لابسة ثوبا من الحرير الأخضر مطرزا بالذهب، وعلى كتفيك جوهرتان وعلى رأسك قبعة موشاة، وأنا أراك الآن في ثوبك هذا أحسن وأجمل من قبل. فقالت الملكة: لله ما هذا الجنون في عشق لا فائدة منه إلا ذكراه؟! قال: نعم، وإنما هي ذكرى تغلو بها الأرواح إذا رخصت ويخضر منها عود الشباب إذا ذوى، بل إنما هي ذكرى ألذ من ألف بشرى، وما هي إلا أثر نظرات ثلاث، أولاها ما ذكرت لك والثانية عند الكونتس دي شفريز والثالثة في حديقة أميان. فقالت الملكة وقد صبغ الحياء خديها: بالله يا لورد لا تذكر تلك الليلة. قال: كيف لا أذكرها وهي زهرة حياتي ونضارة عمري.
رغمت بها أنف الزمان بوقفة
وإياك لا واش ولا مترقب
حيث بثثتني سرك وشكوت إلي همك ويدك في يدي وغدائرك ينشرها النسيم على وجهي، فهي والله وقفة ما أظن جنة الخلد بأحسن منها، وقد تركتني وأنا أنشد:
Неизвестная страница