بسم الله الرحمن الرحيم
والحمـ[ـد لله حق] حمده وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم.
أما بعد، فإن خير ما قطع به الوقت، وشغلت به النفس، فتقرب به إلى الرب -جلت عظمته - طلب علم أخرج من ظلمة الجهل إلى نور الشرع، واطلع به على عاقبة محمودة يعمل لها، وغائلة مذمومة يتجنب ما يوصل إليها. وليس ذلك إلا العلم الذي يصلح الاعتقاد ويخصله من الأهواء، ويصلح الأعمال ويصفيها من الأدواء. وهما علمان: علم الأصول، ومبناه على التأمل والاعتبار؛ وعلم الفقه، ومبناه على استخراج معاني الألفاظ الشرعية وأخذ الأحكام من المنطوق به للمسكوت عنه. وذلك الذي شغلت به نفسي وقطعت به وقتي. فما أزال أعلق ما استفيده من ألفاظ العلماء، ومن بطون الصحائف، ومن صيد الخواطر التي تنثرها المناظرات والمقابسات في مجالس العلماء ومجامع الفضلاء، طمعًا في أن يعلق بي طرف من الفضل أبعد به عن الجهل، لعلي أصل إلى بعض ما وصل [إليه] الرجال قبلي؛ ولو لم يك من فائدته عاجلًا إلى تنظيف الوقت عن الاشتغال برعونات الطباع التي تنقطع بها أوقات الرعاع. وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 7
١ - شذرة وعظية
ما أشد شؤم المعاصي! بينا يسمع قول الله لملائكته ﴿اسجدوا لآدم﴾، حتى سمع النداء ﴿اهبطوا منها جميعًا﴾! بينا يرفل في حلل من السندس والإستبرق، حتى طفق يخصف على عورته من الورق! وإذا أردت أن تتلمح القدر السابق، فانظر إلى قوله السابق: ﴿إني جاعلٌ في الأرض خليفة﴾؛ -خليفة في الأرض، ما يصنع في الجنة؟ ساقته الكلمة السابقة والعلم السابق إلى المستقر: ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾.
٢ - جرى في مسألة عتق الكافر في كفارة الظهار
قال ... المصرف مواعا: ومعلوم أن الكافر فيه سبب الرق وهو مصر عليه. وليس «تملك المال بالكتابة بإجماع، ومن غير كتابة على أكثر المذاهب قول للشافعي وراوية عن أحمد. وذلك يزول بالعتق كما يزول حبس النكاح ورقه بالطلاق. وهو فك حجر مبني على التغلب والسراية. فمن هذا الوجه يصح أن يستعد له.
قال: الطلاق حل لقيد. فهو كحل القيد المحسوس، لا يكون أخذًا بالقوة، بل القدرة مع القيد موجودة. ولذلك لا يقال للمقيد عاجز، بل مقيد. وهنا العتق إحداث قوة. لأن الرق جعل محله كسائر الأملاك. ولذلك جمع جزاء عن اكتساب إنشاء الأب للابن.
1 / 8
٣ - جرى بمجلس نور الهدى ذي الشرفين الزينبي مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب
استدل فيها حنبلي فقال: الأمر بالمجمل والعموم مفيد قبل البيان فائدة مستقلة. وهي ما يحصل للمكلف من تلقي أمر الله سح بالتصديق والاعتقاد والالتزام وتوطين النفس على أداء الحق قل أو كثر. حتى إنه يعتقد أنه لو كان الحق إخراج تسعة أعشار المال، لأخرج؛ ولو كان الأمر بالذبح بذبح ولده، لذبح. فإذا وطن نفسه على ذلك، حصل له ثواب توطين النفس بعد الاعتقاد. فكان سبق هذا الاعتقاد وهذا العزم على الأشد يوفي على ثواب ما يحصل به البيان، ولعله يسير وقليل. فإذا جاء البيان بعد ذلك بالمراد، حصل ثواب الامتثال. وإذا لم يخل من مثل هذه الفائدة، جاز واستقل به عن أن يتبع بالبيان.
اعترض عليه معترض فقال: إن ما ذكرت من الاعتقاد والعزم وتوطين النفس على الامتثال ليس من خصائص الأمر؛ لكنه من موجبات الإيمان الذي هو أصل. بدليل أنه متى آمن فلابد أن يكون معتقدًا أنه مهما أمر به امتثله واعتقده وعزم عليه. وإنما الذي يختص الأمر، فإنما هو الفعل المأمور به المستدعى من المكلف. فأما الاعتقاد والعزم، فذلك «سابق للأمر؛ فلا يكون من موجباته وخصائصه. الثاني أنه يورث المكلف جهلًا، والجهل قبيح؛ فلا يعرض الحكم بالقبيح. وهو خطر أيضًا. فإنه قد
1 / 9
يجوز أن يكون الحق كبيرًا فيقول في نفسه: إن أطعت الحق وسهل، أخرجته وأتيت به؛ وإلا تركته. والتعريض بالمخاطرة في الدين ليس بأصلح ولا حسن. ولأنه لو صح ما ذكرت، لحسن تأخيره عن وقت الحاجة. فلما لم يحسن، بطل به جميع ما عولت عليه. ولأن التخصيص والتفسير كالاستثناء. ثم الاستثناء لا يجوز تأخيره عن المستثنى منه؛ كذلك البيان مع المتبين.
أجاب الحنبلي عن الاعتراضات، فقال: أما قولك إن الاعتقاد والعزم وتوطين النفس ليس من خصائص الأمر، ليس كذاك. لأن اعتقاد الحق المأمور به الخاص لم يستفد إلا بهذا الأمر. وذاك الأول الذي أوجبه التصديق فإنه اعتقاد معلق؛ إن ورد أمر بشيء، اعتقد به. وورود الأمر بعد ذلك أوجب اعتقاد ما ورد به. فليس هذا الاعتقاد ذاك الاعتقاد، بل هو اعتقاد يخص الأمر.
وينتزل الاعتقاد ثلاث منازل. الأول: وهو الذي ألزمتني اعتقاده بالإيمان، أنه متى أمر بشيء التزمه وامتثله. والثاني: لما ورد الأمر بحق فحمل أنه اعتقد وجوب حق والتزمه، وأنه أي شيء كان مما يثقل أو يخف امتثله. الثالث: بعد البيان، أنه اعتقد والتزم عين الحق الذي فسره الشرع وبينه. فقد بان بهذا أن الأمر أفاد فائدة مجددة.
وأما قولك إنه يورث المكلف جهلًا، والتعريض بالجهل قبيح لأن الجهل قبيح، فهذا لا يصح لوجوه. أحدها أن الجهل قبيح؛ وهو
1 / 10
أن يقصد إلى من حصل له العلم بشيء فيجهله. وأما في مسألتنا فإنه فتح له باب العلم بأن ذمته قد اشتغلت بحق في ماله، وأنه قد أوجب عليه وكلف ما لم يك قد كلفه. فهذا نوع إعلام وإفادة لما لم يكن عنده، ولا أحاط به علمًا، وإنما لم يستقص في «جميع الذمة.
٤ - وجرت مسألة العارية
قال حنفي: إن قبض العارية كان بإذن، والاستعمال بإذن. ثم إن الاستعمال إذا تلفت به العارية جزءًا بعد جزء، لم يوجب ضمانًا. فالتلف مع دوام الحفظ؛ والكون الذي في يده يكون لأجل الاستعمال. فإذا كان الاستعمال لا يوجب ضمانًا لكونه استعمالًا بإذن، فكذلك القبض إذا كان قبضًا بإذن. فلا وجه للضمان.
قال حنبلي: إن الاستعمال إذا تلف به الأجزاء كان إتلافًا حصل بالمقصود من العارية. وذلك مقصود المعير والمستعير. فأما الكون في يده والقبض للاستعمال، فهو قبل الاستعمال قابض لمنفعة نفسه منفردًا بها. ومروره إلى الاستعمال قبل الاستعمال كإخراجه من يده بالرد بعد الاستعمال. ومعلوم أن المالك، حيث أعاره، إما أن يكون حمله متبرعًا بالنقل إلى المستعير، أو أخذه المستعير من يد المعير بإذن المعير. فحيث حصل في يده وانتقل بإذنه، لم يك ذلك مؤذنًا بقطع المسافة في رده من ضمان المعير،
1 / 11
بل كان من ضمان المستعير خارجًا عن حكم ما كان عليه حين كونه مستعملًا له، وفي يده، عندك. فإذا جاز أن يكون هذا حاله في حال الرد، ويجعل الإذن الأول كالمنعدم، كذلك يجعل الإمساك قبل الاستعمال عدمًا في حق الإذن؛ إذا لم يتحقق الاستعمال، وقلت في يده، لا بما أذن أو قصد به. ولم يقل للمالك: أنت أذنت في حصوله بالبصرة، من حيث أغرق السفينة لركوبها إلى البصرة، فرجوعها إلى بغداد من هناك والتبعيد لها بإذنك، لكن في منافع وشغل المستعير، فنظرنا إلى ذلك. وإن كان بإذنك، فلم يقل ترجع بمالك ومؤونتك حيث بعدت بإذنك، بل ترجع إليك بمال المستعير ومؤونته. وكذلك مؤونة الأجزاء إذًا «باقية، وإن كانت بتلفها في الاستعمال لا يكون على المستعير.
٥ - وجرت مسألة الوديعة هل يملك المسافرة بها
قال حنبلي: يملك السفر بها. لأن قوله «احفظها» نص على الحفظ به؛ وقوله يتضمن إطلاق الحفظ بكل حال. وإذا سافر بها، فقد حفظها بإذن المالك ونصه وعموم لفظه. وإذا حفظها في البلد لا بنفسه، عمل ببعض العموم؛ وترك النص يعم. وليس يملك المسافرة به إلا إذا كان الغالب من السفر السلامة. فلا يبقى شيء يعول عليه. إلا أن الحضر في الغالب أحفظ؛ فيخير المفاضلة بكون يده عليها، وكونه بنفسه حافظًا
1 / 12
لها. فيكون الحضر الذي هو أحفظ مع عدم مدة أنقص. والسفر الأنقص حفظًا في الغالب مع كون يده عليها أحفظ، فصارا سواء. وليس يمكن أن يقال أن الغالب السفر التلف والعطب. لأن السفر إذا كان مأمونًا [يكون مأمونًا] في الغالب بحشمة السلطان وقلة القطاع للطريق واتصال القوافل وكثرة الخفراء. وانتشار الخلل [...] فلا يبقى إلا أن السفر أقل حفظًا بالإضافة إلى الحضر لكثرة الغوث. فيصير كإخراجها من داره إلى دار أخرى لتحويله ونقله. وكان صاحبها أطلق للإيداع، ولم ينهه عن الإخراج ولا عن المنفعة. فإن في حال إخراجها إلى الطريق جعلها في مكان ليس بحرز. ولهذا لا يقطع بالأخذ منه السراق. ثم لا يجعل ذلك تفريطًا ولا تضييعًا. كذلك السفر بالإضافة إلى الحضر.
٦ - وجرت مسألة السلم في الحيوان
قال حنبلي فيها: ما ثبت في الذمة مهرًا ثبت في الذمة سلمًا؛ كالمكيل والموزون.
اعترض عليه حنفي فقال: إن المال في عقد النكاح تابع، والبضع متبوع. والصفات في السلم والمالية التي تحصل بكثرة الصفات متبوعة، والأعيان تابعة. وقرر ذلك بأنه إن بالغ في صفات الحيوان، «اقتطعه الاستقصاء عن النظائر. فلم يك وجوده سائغًا يؤمن مع التعذر. فيصير
1 / 13
كالمعين من الصنجة والمكيال. والشجرة والنخلة لا يصح السلم [فيها] لسرعة التعذر بهلاكها وعدم الشياع واتساع محل السلم فيه للتضييق بالتعيين في ذلك المحل المعين. وإن قصر في الوصف على المقصود من الحيوان الذي به يجعل اختلاف المالية من الجواهر الكامنة الغامضة فيه؛ مثل الثقة والأمانة والفراهة والذكاء والفطنة والهملجة والقوى والصبر والحمل، وما شاكل ذلك. فإن تعطل هذا النوع عن السلم فيه، فليس بأول متعطل لعدم الإحاطة بمقاصده؛ كما في الجواهر والقسي والغالية، وما شاكل ذلك من المركبات.
٧ - وجرت مسألة البيع بشرط الخيار هل ينقل الملك
قال شافعي: سبب لنقل الملك، فوجب أن ينقل الملك، كالمطلق.
قالوا له: ولم إذا كان ناقلًا مع إطلاقه، نقل مع تقييده؟ ونحن نعلم أن العتق والطلاق مطلقه يزيل، ومقيده لا يزيل. وينقل التصرف مطلق هذا، ولا ينقل التصرف مقيده. فأين الإطلاق من التقييد؟
قال: إذا أمكن الإطلاق بحسب اللفظ والتقييد بحسب اللفظ، فلفظ التمليك يقتضي نقل الملك، فنقلناه. والخيار يقتضي تملك الفسخ والتأثير في لزوم العقد، فأزلنا اللزوم وأجزناه، وهذا جمع بين مقتضى اللفظين.
قال الحنفي: إن الخيار يعود إلى العقد، لأنه هو المنطوق به. فإذا
1 / 14
عاد إليه، أعاقه. وقد كان ينبغي أن يمنع انعقاده. لكن الإجماع أوجب أنه ينعقد مع الخيار. فصرفنا التأثير إلى حكمه، وهو نقل الملك. فأعاقه عن نقل الملك به.
٨ - جرت مسألة الجدة أم الأب هل ترث مع وجوده
«فاستدل فيها شافعي فقال: كل شخص أدلى بالأب لم يرث معه من فوق، كالجد؛ ومن أسفل، كالأخ. وعلى هذا كل من أدلى بشخص؛ كالجدات مع الأم، وبنات الابن مع الابن، وبني الإخوة مع الأخ. فهذا هو الأصل في الفروض.
اعترض حنبلي فقال: إن الجدة أم الأب أدخلها الشرع في قبيل الأمومة بدليل شيئين. أحدهما أنها دخلت في قبيل الجدات من الأم فهي كواحدة منهن وسقطت بالأم كما تسقط جدات الأم ولو لم تجعل من قبيل الأمومة ما أسقطها من هو أقرب في الأمومة. وما ادعيته في الأصل فما يستمر ولا يطرد. فإن أولاد الأم بها يدلون ومعها يرثون ويحجبونها من الثلث إلى السدس. وأما الجد والأخ فإنهما يرثون بالتعصب مع الأب. والعصبة أبدًا تحجب من هو مدلٍ به ومن هو أبعد منه. فأما الجدة أم الأب فإنها ذات فرض خاصة بخلاف بنت الابن فإنها تتعصب بابن الابن أخيها وابن أخيها. وكذلك الأخوات للأب تتعصب. فأما الجدة فلا تتعصب.
1 / 15
فهي بذكر الأم أشبه. لما كانوا على محض فرض بغير تعصب ورثوا مع من يدلون به. فلما كان فيها معنى العصوبة سقطت بمن تدلي به. وكذلك الأخوات للأب.
قال الشافعي: أما كونها تدلي بالأب فأصل مستقر. ولذلك متى كانت الجدة تدلي بأب لا تعصيبًا لم ترث ولم تدخل مع أمهات الأم في قبيل الجدات. وذلك مثل أم أبي أم أو تكون الجدة أم أبي أم أب، فإنها لا ترث. فلما وقف ميراث الجدة ... على أن تكون أم أب أو أم أبي أب أو أم أم أو أم أم أم. ومتى دخل الجد بين أمين لم ترث الجدة التي تدلي به علم أن المغلب في حقها، والأصل الإدلاء بالأب. وإذا كان كذلك كان إدخالها في قبيل الأمهات عارضًا، «وكان عارضًا يضعفها؛ لأنه عارض أوجب الإسقاط بالأم، وليست من تدلي بها. فكان سقوطها بمن تدلي بها أحق.
قال الحنبلي: إذا كان معدولًا به عن قرابة الأب شرعًا بخلاف الجد والأخ عولنا على إرثها بحسب ما ألحقت به وأدخلت فيه دون الأصل الذي عدل بها عنه. وسقوطها بغير من تدلي به، وإرثها مع الجدات اللواتي لا يدلين بمن تدلي به، لا يوجب ضعفًا؛ لكن يوجب أن يكون حكمها حكم الأمهات. ألا ترى أن أولاد الأم أسقطهم من لا يدلون به، وهو الجد والأب والبنات، ولم يورثهن ذلك ضعفًا بحيث تسقطهم الأم التي بها يدلون وعنها ينزعون.
1 / 16
٩ - جرت مسألة ذوي القربى
قال مالكي: إن أحدهم مع الغناء لا يشبه قانون شريعتنا. فإن الشريعة جعلت كل مال لله مصروفًا إلى من يحتاج إليه أو نحتاج نحن إليه. فالمحاويج كالمساكين والفقراء والأيتام، ومن حاجتنا نحن إليه كالفقهاء والقراء والمجاهدين والأئمة والقضاة. فإذا كان الأغنياء من ذوي القربى لا حاجة بنا إليهم، ولا حاجة بهم إلى المال، فإن الملة على هذا. وإلا متى كانوا يبلون في الحرب أو العلم أو غير ذلك من الأمور التي تسد في المصالح مسدًا استحقوا. وإلا صار الدفع إليهم صولة دولة. وقد نهي الله عن ذلك فقال: ﴿كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم﴾. وقال على سبيل الذم لقومه: واتخذوا مال الله دولًا وعند الله حولًا. والأشبه بقرابة رسول الله أن لا يحصون مع الغناء فيكون ذلك موجبًا للتهمة، وإن طلب للغنائم لأهله وعشيرته. وهو ممن تجنب كل أسباب التهمة حتى إنه لما طلبت منه فاطمة وعلي ﵉ -عبدًا يرفههما عن العمل الذي أثر في كيفهما طحنًا واستقاء للماء قال: ألا أدلكم على ما هو خير لكم من ذلك: تسبحون الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمدانه «ثلاثًا وثلاثين، وتكبرانه أربعًا وثلاثين.
اعترض عليه حنبلي فقال: إن أهل بيت رسول الله صلعم من أعلام الدين وإليهم قصد المسير مدون وفيهم الخلافة. ومن كان كذلك لا يخص بالمال لأجل الفقر لكن لأجل الإعانة على التجمل وتجمل المكلف ونزول
1 / 17
الأضياف والوفود. فلا يكفي في حقهم الإغناء عن الناس بل يجب أن يصرف إليهم من يستغني به الناس.
قالوا له: فكان يجب أن يجعلهم له وارثين.
قال: إنما لم يورث لئلا يتمنى متمن من أقاربه فيهلك بذلك في دينه وينحبط عمله.
١٠ - وجرت مسألة من أقر على نفسه بالقتل فكذبته شواهد دلت على كذبه
مثل أن قال «أنا قتلت فلانًا أمس» فشهدت البينة أن فلانًا مات منذ شهر. فإنه لا يؤخذ بقوله وإقراره على نفسه ولا يقتل. ويصير رفض قوله على نفسه كرفض قوله على غيره. لأن قول على نفسه يقبل مما لا يقبل على غيره لنفي التهمة. فإذا تحقق كذبه فلا وجه لتصديقه. ألا ترى أن مدعيًا لو ادعى عليه الزنا بأمته فقال «صدق» وكان مجبوبًا كان في بطلان الإقرار بمثابة قوله «أنا قتلت زيدًا منذ عشر سنين» وعمر زيد خمس سنين. ولذلك قرر النبي صلع على ما عز تحقيق قوله «زنيت» بمراجعته من تأويل إلى تأويل.
اعترض عليه فقيل: هلا قطعت قوله «أمس» عن قوله «قتلت» لأنه محال، وجعلته كأنه قال «قتلت» فقط؛ كما إذا قال «أنت طالق أمس»؟
1 / 18
قيل: لا وجه لذلك في الإقرار كما لو قال «قتلته خطأ» أو قال «قتلته صائلًا علي فدفعته».
١١ - وجرت في مسألة المأذون له في بعض التجائر هل يقضي ذلك إطلاقه في سائر التجائر
قال حنفي: إنه يتصرف في «الأصل لأنه حي. وكل حي تقع تصرفاته باختياره. وهو حر تقع باختياره. وهو حر في باب النفس، بدليل أنه يملك الإقرار عليها بالقتل العمد ولا يملكه السيد. ويتحمل في ذمته ما يزيد على أضعاف قيمته. ولا يملك السيد إشغال ذمة العبد بحبة واحدة. وهذا يشهد لما ذكرنا. فإذا ثبت أنه كذلك كان إطلاق السيد له في التصرف مطلقًا له. فيتصرف في التجارة بحكم أنه حر. وذلك يفيد التصرف المطلق.
١٢ - فصل
قال حنبلي: اعلم أنه سح قد نبهك على حفظ حرمك، وإلغاء الثقة عليهم بمن طالت صحبته وحسنت تربيته وسيرته؛ حيث أعلمك أن كريمًا من أولاد خيار الأنبياء كان بين عزيز رباه، وسيدة كريمة أكرمت مثواه، حانت منه معها خلوة، ثارت بينهما همة، قارب بها حصول المحنة والفتنة، لولا تدارك الباري له بالعصمة وإقامة البرهان لصرف الهمة. من أين لك اليوم مثل ذلك الكريم؟ ومن أين لمن يخلو بأهلك عصمة تطرد الهمة،
1 / 19
وبرهان يحول بينه وبين الفتنة؟ فالله الله على الثقة بإنسان مع نصح القرآن بهذا البيان! أما رأيت صاحب شريعتك كيف قال لزوجتين كريمتين خليا بأعمى من كرام الصحابة، فقال لهما في ذلك. فقالا: يا رسول الله! إنه أعمى. فقال: أفعمياوان أنتما، لا تبصرانه؟ وأمر الغلام الوضيء الوجه أن يدور من ورائه.
فإذا كان الشرع على هذا الاحتياط، فما هذا الاسترسال منكم والانبساط؟ يقول الواحد منكم في الركابي والفراش إن كان شيخًا: «هذا ربى أهلي»، وإن كان حدثًا «هذا رباه أهلي». كذا يكون الفطناء. هل قصد الباري الإزراء على أولاد الأنبياء، حيث قص لك قصصهم في المكر والعداوة وإطلاق القول بما كان الباطن خلافه؟ لا! ولكن قصد بذلك إيقاظك عن الإصغاء والاسترسال إلى قول بالبادرة لحسن الثقة، وأمرك بالتوقف عند كل شبهة، والتحرز عن حسد الحاسدين، وكتم النعم عن السعاة في إزالتها من المفسدين.
١٣ - وجرت شذرة في ذوي القربى هل يعتبر في استحقاقهم الفقر
فقال حنفي: إن النبي صلعم حرم قرابة دون قرابة مع المساواة. حيث قال له عثمان وجبير بن مطعم: «لم أعطيتهم وحرمتنا؟» وأشارا إلى بني المطلب. فقال: «إنهم لم يفارقونا في جاهلة ولا إسلام.» وعنى كونهم معه في الشغب. وهذا إشارة إلى التعليل بالنصر.
1 / 20
قال حنبلي: فهذا لا يضرني. لأنه يجوز أن يكون إنما أبعدهم مع القرابة لحق له. وقد يحرم الإنسان حقًا له لأجل إساءة؛ كما حرم القاتل الإرث والمفارقة وقت قصد الأعداء خذله والإغراء به. وهذا لا يمنع كون القرابة علة. ولهذا لم يعط من كان معه من تيم وزهرة، وإن كانوا لم يفارقوه. فأبو بكر ما فارقه؛ لكن لما عدمت القرابة لم يعطه.
وذكر فيها مالكي أيضًا، فإنه يوافق الحنفي في اشتراط الفقر: إن النبي صلعم قال للفضل حيث طلب العمالة على الصدقات: «أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس؟» فجعل الخمس إغناء. فالظاهر أنه للقرابة كالزكاة للأجانب. ثم الزكاة جعلت لإغناء الفقراء. كذلك الخمس المأخوذ من الخمس جعل إغناء على سبيل البدل عن الإغناء بالزكاة.
١٤ - قال قائل: لو أن الله سح عذب الأنبياء وأدخل الكفار النار، لكان منه حسنًا.
قال له معترض عليه: يا هذا! ما تعرف عوار ما تقول ومقدار الكفر الذي تحته! فإن القرآن كلامه. ومن حيث كان كلامه يستحيل عليه الكذب. وقد يضمن الخبر عن نعيم أقوال معينين وتخليدهم الجنة. وتجويز إخلاف الوعد تجويز للكذب. وحاشا كلامه من الكذب، لا محاشاة مدح
1 / 21
مسعان، بل محاشاة إحالة. كما يستحيل على علمه الجهل، وحياته الموت، «وقدرته العجز، كذلك يستحيل على صفته، التي هي الكلام، الكذب. فكما أنه لا يجوز على كلامه الكذب، كذلك لا يجوز إدخال النار من أخبر أنه سيدخله الجنة. فبهت المتكلم بذلك.
وجعل أقوام يحتجون بذكر الأقدار على مبالغ في الوعظ والإزعاج بذكر آي الوعيد. وكان الواعظ حنبليًا محققًا في الفروع والأصول يدري ما يقول. فقالوا له: كلامك كلام قدري، لا حنبلي! فقال: أنا لا أدري من القدر ما يقيم لكم الحجة، ويقطع لساني عن خطابكم وعتبكم على إهمال الأعمال. والذي قدر القدر هو الذي أمر الأنبياء بالبلاغ؛ ويهدد على تركه، حتى قال: ﴿وإن لم تفعل فما بلغت﴾. وقال: تركتم علمًا نافعًا ألجمه الله بلجام من نار. فلما جاء إلى القدر قال: إذا ذكر القدر فأمسكوا. فدل على أنه ليس من العلم النافع. ولما قالوا له: «ألا نتكلم؟» قال: «لا! اعملوا وسددوا وقاربوا.» ثم تلا: ﴿فأما من أعطى واتقى﴾ ﴿وصدق بالحسنى﴾ ﴿فإن الجنة هي المأوى﴾، وتلا إلى آخر الآيات.
١٥ - جرى بمجلس نور الهدى ذي الشرفين الزينبي مسألة الأب إذا زوج ابنته بدون مهر مثلها
فاستدل فيها حنبلي بأن النكاح ليس المال فيه أصليًا في القصد، بل تابع، والأصل إنما هو طلب الكفاءة والحظ الأكبر ذلك. والأب هو الغاية في الإشفاق، فلا تذهب نحوه تهمة. فإذا نقصها من الصداق،
1 / 22
علم أنه رفع ذلك وسد الخلل فيه بزيادة في الجمال والكمال الذي تدوم به العشرة، وتصفو به الألفة، من أخلاق تنضم إلى كرم الأصل وشرف النسب. فلا يعيرها ولا يؤذيها ولا ينقصها حقًا من حقوقها. والثقة بهذه الخلال والحظوة بتحصيلها أنفع لها من التوثق بالمهر الذي غاية ما فيه ارتهانه به وخوفه من نقله والمطالبة به؛ وبخوفه من الطلاق خوفًا من كثرة نصفه «قبل الدخول، ومن ثقل حملته بعد الدخول. فإن التوثق بكرم الطباع أحرى من التوثق بالخوف من المطالبة بالمال.
اعترض عليه شافعي فقال: لا أسلم أن المهر تابع، بل أصل ومقصود قصد الأعواض في سائر المعاوضات. يفسخ العقد عند أبي حنيفة لأجل الجب والعنة لعدم استقراره وتعذر ما يقرره. ويفسخ عندنا وعندك، يا حنبلي، لأجل الإعسار به وبالنفقة. ويثبت شرعًا وتسميةً ويرد بالعيب ويحبس عليه الزوج وتحبس الزوجة نفسها عن التسليم إلى الزوج لأجله. وأما قولك إن الأب كامل الشفقة، لكنه غير معصوم في نظره. فإذا تحققنا بحبسه لحظها من المال تردد الأمر عندنا بين ما ذكرت من الخير وبين الخطأ والزلل في حقها. وكم ممن لا يدهى من جهة الإشفاق لكن يدهى من الخطأ في النظر، كالأب الفاسق أو المبذر! ولأن هذا لو صح، فهلا جعلته في المال علة إذا جاء بأموالها في الأشربة والبياعات، وحملت ذلك على أنه طلب؟ فالمحاباة تحصيل حظ إما من جهة سلطان بقصد حمايته وحراسته
1 / 23
لأموالها، أو إفاضة جاهه عليها. ولعله اشترى لها المعيب محصلًا لقيمة فيه توفي على العيب. فلا توجب عليه فسخ العقد لأجل العيب وتجعل عقده على المعيب الذي ابتاعه لها لازمًا في شرى الأب. ولا تملك به الرد ثقة بنظره لها.
قال الحنبلي: أما جحدك أن المهر تابع، ودعواك أنه متبوع وأصل ومقابل، لا يصح. لأن فساده لا يفسد العقد، وترك ذكره وإخلاء العقد من تسميته أيضًا لا يمنع انعقاد العقد، وامتهان حبسه وقدره لا يعترض به على المرأة، وامتهان جانب الزوج بين مفسد أو معترض. فلو رضيت بحب القطن وقشور الجوز وكسار الزجاج وخلقان النعال كل ذلك حبس يزرى. وقلة القدر أيضًا يزرى. ولا يعترض عليه فيه. ولو أراد الأب الاعتراض عليها فيه، إذا كانت «بالغًا، ما ملك؛ ولا ولاية للأب مع بلوغها ورشدها وحسم أمر الزوج في حقها. حتى إنها لو تلفظت بتزويج نفسها لم يصح. وذلك خوفًا من تزوجها من بعض من نسبها. ولو عدم في جانب الزوج الشرف ووجد فيه خساسة الحسب أو النسب أو الدين أو الصناعة، كان ذلك بين اعتراض يفسخ لأجله أو إبطال للعقد من أصله. فبان أن المهر بهذه الجملة تابع، لا مقصود أصل. والمسامحة به ممدوحة، والمسامحة بالكفاءة مذمومة. وقد بعد العوض فيه عنه، حتى قيل إنه كالعقد المنفرد بنفسه. فأين حكم العوضية فيه؟ وأما الخطأ الذي
1 / 24
تعلقت به فإنه وإن كان مجوزًا، إلا أن الأمر لا يحمل إلا على الظاهر. وليس النكاح مما يعقد عن بادرة كبادرة البياعات في الأسواق. ولا هو كبيع السلع التي تتعاطى السوقة. بل هو عقد تجمع له الآراء وتحمد، وتجتمع له العشيرة، وتبسط فيه المشاورة؛ ويجمع الأب رأيه في بغاية الجهد مع كمال إشفاقه. فأين الخطأ مع هذا الاحتياط؟ وجرت عادة الناس أن لا يعقد إلا بعد الإطالة والمراجعة. ولهذا لم يدخله الخيار المتأخر عنه. لأنه لا يؤخر رأيه عن عقده، بخلاف سائر المعاوضات. ويخالف ما ذكرته من محاباته في عقود الأموال. لأن تلك لا يلحقه بها عار في نفسه، ولا يتحصل بها نفع في نفس مقصود العقد. ومتى كان في العين المبتاعة غرض جاز بذل المال في مقابلته، كمسألتنا.
١٦ - تجارى قوم فتوى وردت في طائر يطير ويعود إلى برجه. باعه مالكه ممن رآه في برجه وجره. وكان بيعه له حال كونه في الجو
فقال الجماعة: يصح بيعه؛ لأنه بعوده إلى برجه على اطراد العادة لا يخرج بطيرانه عن القدرة على تسليمه؛ ويصير بمثابة الشاة التي في القطيع ترعى وتعود.
وأنكر من لم يحقق ذلك فقال: «هذا طائر في الهواء.
1 / 25
قيل له: لا تنظر إلى الصورة. فإن العبد في الصحراء في صورة الآبق. لكن إذا أنس منه الرجوع في العادة انقاد أن كان صورته في الصحراء صورة الآبق. وكذلك الجمل في العريب والمرعى صورته صورة الشارد. لكن إذا كانت عادته مستمرة بالرعي، ثم يأويه الليل إلى معاطن الإبل، جاز بيعه ممن شاهده وإن وقع البيع عليه قبل رجوعه إلى المربد. كذلك هذا ولا فرق.
١٧ - شذرة جرت في مسألة المرتد هل يرثه أقاربه من المسلمين ما كسبه حال إسلامه
قال حنفي: الردة كالموت. فبقدر إرثه منه في آخر جزء من أجزاء إسلامه طولب بكونه كالموت من أي وجه، فقال: موقع للفرقة، مزيل لملك الأبضاع، والأموال مانعة من تملكه للبضع بكل حال. وإن كان امرأة لا يملك بضعها، لا مساويها ولا مخالفها. فلا مسلم ولا كافر يملك بضعها. فصارت الردة كالموت. وإذا صارت كالموت، كان من حين ارتد على ما كان كسبه حال الإسلام كالمتوفى عما كسبه حال الحياة. فكان لوارثه المسلم.
قال له شافعي: لو كان مقدرًا موته في آخر أجزاء إسلامه، لكان إذا كان له ابن في تلك الحال وأخ، فمات الابن ثم مات المرتد، أن لا يرثه أخوه، لأن المال انتقل إلى ابنه.
1 / 26