الدعوة والدعاة من ظلال آية
الدعوة والدعاة من ظلال آية
Жанры
٧ - صفات ومقومات الداعية الناجح:
لا بُدَّ للداعية إلى الله من أن يَتحلّى بصفاتٍ تميّزه عن غيره، حتى يكونَ له الأثرُ النافعُ الناجعُ في المجتمع، هذه الصفات إن تحقّقت في الداعية إلى الله كانت نصيحته مسموعة محفوظة، يستطيع بكل يُسر حمل الناس على تغيير تصوراتهم وقناعاتهم من جهة، ثم حملهم على تغيير سلوكهم وأنماط حياتهم من جهة أخرى طوعًا لا كرهًا. وسأذكر أهم الصفات وأبرزها:
١ - أن يكون مخلصًا صداقًا في نفسه وفي دعوته:
فهو لا يريد بدعوته رياءً ولا سُمعةً ولا ثناءً ولا مدحًا من أحد، وإنما يريد بلوغ رضا الله ﷿، ولهذا فإن الداعية المخلص لا يكون همّه كثرة أتباعه أو ذيوع صيته أو نحو ذلك، وإنما همّه وكدّه هداية الناس لمنهج الله ومنهج رسوله؛ ليكون لهم الفلاح والنجاح في الدنيا قبل الآخرة.
فهو إذن يعمل لله لا ينتظرُ مدحَ أحد ولا ثناء أحد، ها هو رجلٌ يأتي إلى رسول الله ﷺ-ويقول يا حبيب الله، «إني أَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ وَأَلْتَمِسُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِي خَيْرٌ، وقبل أن يُجيبَ المصطفى نَزَلَ جبريل بقوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾» [أخرجه الإمام هناد بن السري في الزهد عن مجاهد].
وكان من وصية النبي ﷺ لمعاذ بن جبل ﵁-عندما أرسله إلى اليمن داعيًا: «أَخلصْ دِينكَ يَكْفِكَ القليلُ مِنَ العملِ» [الحاكم في المستدرك على الصحيحين برقم: (٧٨٤٤)]
٢ - أن يمتلك الزاد العلمي الضروري:
فلا بُد للداعية إلى الله ﷿ من التّسلح بالعلم الشرعي الضروري، حتى يدعو إلى الله بعلم وبصيرة، فمن تكلم فيما لا يعلم كان إفساده أكثر من إصلاحه، وهدمه أعظم من بنائه، يقول الله تعالى مبيّنًا نهج النبي ﵊ وأتباعه من بعده في الدعوة إليه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ..﴾ [سورة يوسف: ١٠٨]
والبصيرة: هي العلم والمعرفة التي يتميّز بها الحق من الباطل؛ ببصيرة مستنيرة، وحجة واضحة.
إذن يشترط في الداعية إلى الله أن يكون على علم، يعلم به أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر؛ لأنه إن كان جاهلًا في الأحكام الشرعية العامة فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهى عما ليس بمنكر، وهذا ما يغفل عنه كثير من الجماعات اليوم فإن كثيرًا من الجماعات اليوم التي دخلت في هذا المضمار، بل دخلته من أوسع أبوابه قد نسيت وتناست السِّلاح المهم، وهو العامل الأقوى والأمضى الذي هو العلم.
وهذه ركيزة هامة لكل من نذر نفسه للدعوة إلى الله، فكم سمعت من أُناسٍ دفعهم حبّهم للدين والقيام بهذه الشعيرة؛ لكنهم لم يتعلموا العلم الشرعي الضروري فوقعوا في الطامات، وأساؤوا من حيث أردوا أن يحسنوا.
يرحم الله الشيخ محمد الغزالي عندما كان يقول: " إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم"
وأذكر مرة أنني قلت لأحد الشباب المقصرين بصلاتهم بعد موعظة حسنة؛ لِمَ تُقصر في صلاتك ..؟! فقال لي: عملي لا يسمح لي بالخروج لوقت كل صلاة، وقد قال لي أحد الناس: لا تصح صلاتك إلا في المسجد. قلت له، هذا الكلام غير دقيق .. فصلاتك حيثُ كنت؛ في معملك، في محلك، في رِحلتك، صحيحة كاملة كما ذهب إليه جمهور الفقهاء ﵏ لقول رسول الله ﷺ: «وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ» [صحيح البخاري برقم: ٣٢٨] وينقصك فقط أجر الذهاب إلى المسجد .. ففرح الشاب فرحًا كبيرًا ...، وكأني أزلت له عقبةً كؤود من طريقه، وقال لي: "عهدًا عليَّ لن أترك الصلاة بعد اليوم إن شاء الله".
٣ - أن يتحلى برحابة الصدر والرفق بالمدعو:
فالداعية الناجح هو الذي يرفق بالمدعوين، فيستخدم في دعوته أرق أسلوب وأنجعه متحلّيًا بالحكمة والموعظة الحسنة وحسن المعشر والمخالطة؛ وذلك ليستوعب الداعية من حوله من الناس، فإنه كما جاء في الأثر: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن تسعوهم بأخلاقكم ".
وللناس مطالب كثيرة، وتساؤلات عديدة، تحتاج من الداعية إلى الاحتمال؛ وسعة الصدر، وهذا له أثر عميق في قلوب من يدعوهم، فهذا رجل جاء إلى أبي إسحاق الشيرازي -فقيه الشافعية في عصره-فجالسه ثم قال: " .. فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده، ما حبّبَ إلىَّ لزوم صحبته فصحبته إلى أن مات". [سير أعلام النبلاء ١٨/ ٤٦١]
٤ - أن يبدأ بالأهم فالأهم:
فلا بُدّ للداعية من أن يهتم في دعوته بالأولويات والأساسيات، ففقه الأولويات ضرورة شرعية وتعليمية ودعوية، فالداعية لا ينجح في دعوته ولا يكون موفقًا في تبليغه، حتى يعرف ماذا يقدم لمن يدعوهم، وماذا يؤخر، وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها.
... وأذكر مرة موقفًا لا أنساه أبدًا فقد كان أثره في نفسي عميقًا وفهمت من خلاله مدى أهمية الأولويات في الدعوة إلى الله ...، فبينما كنت أجلس ذات يوم مع أحد الدعاة بعد خطبة الجمعة إذا بشاب يأتي مترددًا خجلًا يقدم رجلًا ويؤخر أخرى!، فقال له: تعال يا بنيَّ أقبل ولا تترد ... ما حاجتك؟! -
قال يا سيدي: سمعتُ خطبتك وتأثّرت بها، وأريد الالتزام وحضور مجالس العلم، لكن لا أريد تربية لحيتي، ولا تغير قصة شعري، ولا تغير اللباس الذي ألبسه-وكان يلبس ما يُسمى بالجينز، وكان حليق اللحية، ووو .. الخ-
فتبسم الداعية ابتسامة هادئة عذبة، وقال له: يا بنيَّ من قال أني أريد منك أن تغير لباسك وقصة شعرك؟!، بل إني أراكً جميلٌ أنيقٌ بها، لا تغير من ذلك شيء ...، وما عليك إلا أن تحضر كما أنت إلى الدرس، بلباسك الجميل هذا.
ففرح الشاب فرحًا شديدًا، وأصبح ممن يحضر مجلس الشيخ، ومرت الأيام والسنون ..، وإذا بي أرى هذا الشاب يمسك حلقة قرآن في المسجد يدرس طلابًا شبابًا صغارًا ..، وقد تغير ظاهرًا وباطنًا ...
فأدركت مدى الحكمة التي امتلكها ذاك الداعية عندما ترك تفاصيل الشكل، وبحث عن تغير الجوهر الذي هو الأصل.
نعم لقد جاءت دعوة الإسلام بالتّدرّج، وبدأت بالأهمّ فالأهمّ، وتقديم الأصول على الفروع ومثال ذلك، حديث إرسال معاذ-﵁-إلى اليمن والذي يصوّر التّطبيق العمليّ والطّريقة المثلى لفقه الأولويّات في دعوة النّبيّ ﷺ، عندما قال لمعاذ: "إنّك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أنْ يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينه وبين الله حجاب» [صحيح البخاري برقم: ١٤٩٦]
فمن خلال الحديث النّبويّ السّابق نلاحظ كيف طلب النّبيّ ﷺ من معاذ أن يتدرّج مع أهل اليمن في الدّعوة وأن يبدأ بالأهمّ فالأهمّ وألّا ينتقل من مطلب إلى آخر حتّى يتمّ تطبيقه دون تهاونٍ نقصان، وذلك تلطّفًا بالدّعوة والخطاب، ولو أنّه طالبهم بالجميع دفعةً واحدة لما أمن من النّفرة، وشبيه هذا المثال أيضًا التّدرّج في تحريم الخمر في القرآن الكريم، والأمثلة كثيرة في ذلك لن أسهب في الحديث عنه إنما سيكون في بحث مستقل إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
1 / 11