ولهذا كان من الملائم جدا في إسبرطة وأثينا ورومة وغيرها أنهم كانوا يستخدمون العبيد الأرقاء في الاشتغال بأمثال تلك الصناعات، إلا أن شريعة المسيحية قد غيرت هذا النظام.
وأقرب نظام إلى ذلك النظام أن تترك تلك الصناعات في جملتها للغرباء، الذين يجب أن يتيسر تبنيهم وتجنيسهم لهذا الغرض، وأن توزع جمهرة الوطنيين من الغوغاء بين هذه الأعمال الثلاثة: وهي فلاحة الأرض، والخدمة الحرة، وصناعات الرجولة القوية كالحدادة والبناء والنجارة وما إليها، وهذا عدا الجنود المحترفين.
وفوق كل شيء نعد أهم الأمور لعظمة الدولة أن تجعل الأمم شرفها الأكبر في حمل السلاح ودراسة فنونه والانتساب إلى صناعته، فكل ما تقدم إنما هو وسائل إلى هذه الصناعة، وماذا عسى أن تجدي الوسائل بغير القصد والعمل؟ وقد قيل رواية أو رمزا: إن روميلوس أرسل بعد موته إلى قومه يوصيهم أن يعنوا بالسلاح، فيصبحوا من ثم أعظم دول العالم بأسره، وكان محور دولار الحكومة في إسبرطة يدور بها كلها للاتجاه إلى هذه الوجهة وحدها، وإن أخطأتها الحكمة في تحقيقها، واهتم بها الفرس والمقدونيون لمحة والغاليون والجرمان والغوط والسكسون والنورمان زمنا، والترك في هذه الأيام وإن غلب عليهم الاضمحلال.
أما في أوروبا المسيحية فالأسبان وحدهم في الواقع معنيون بهذه الوجهة، وإنه لمن الوضوح بحيث لا يحتمل الإطالة في البيان أن المرء يستفيد من الشيء على قدر عنايته به، وحسبنا أن نقول: إنه ما من أمة تقصر في اتخاذ صناعة السلاح، ثم تسقط لها العظمة لقمة باردة في أفواهها، وبخلاف ذلك الأمم التي تطيل مراس هذه الصناعة كما فعل الرومان والترك على التخصيص، فإنها تأتي بالأعاجيب. أما الأمم التي اتخذتها زمنا فقد بلغت بها العظمة مع ذلك، وضمنت لها بقاءها طويلا بعد تخليها عن تلك الصناعة أو تعرضها فيها للتأخر والانحدار.
ومما يساعد على هذه الوجهة أن تتاح للأمة تلك القوانين والعادات، التي تهيئ لها أسبابا عادلة للحرب في دعواها، فإن في طبائع الإنسان حاسة العدل، التي تأبى عليه دخول الحرب وما فيها من الويلات لغير سبب مفهوم للنزاع، فالترك لديهم السبب الحاضر في أيديهم للحرب، وهو نشر دينهم وشريعتهم، والرومان على اعتبارهم توسيع تخومهم شرفا عظيما يسبغونه على قادتهم بعد ظفرهم في الحروب، لم يتخذوا قط هذه الغاية وحدها سببا للقتال.
فعلى الأمم التي تطمح إلى العظمة أن تنمي الإحساس بالغضب لكل إساءة يلقاها سكان تخومها، أو تجارها أو المندوبون السياسيون عنها، ولا تصبر طويلا على التحدي والاستثارة، وعليها إلى جانب هذا أن تكون على أهبة دائمة لنجدة حلفائها، كما كان دأب الرومان الأقدمين، حتى لقد كانوا يبادرون إلى نجدة الحلفاء لأول دعوة وإن كان حليفهم مرتبطا بعهود الدفاع مع حكومات عدة، فلا يكلون شرف النجدة قبلهم إلى واحدة من تلك الحكومات. •••
على أننا لا ندري كيف يتيسر المسوغ الحسن للحروب، التي كانت تشن قديما لنصرة جانب من الجوانب أو لتشابه الأنظمة الحكومية، كالحرب التي شنها الرومان لتحرير جراسيا، أو الحرب التي شنها اللقدميون والأثينيون لتأييد الديمقراطيات وحكومات العلية أو تقويضها، أو الحروب التي كان يشنها الأجانب وهم يدعون إنقاذ رعايا الدول الأخرى من الظلم والطغيان، وما شاكل ذلك. ويكفي أن نذكر أنه ما من دولة يحق لها أن تطمح إلى العظمة ما لم تكن ملبية لكل سبب عادل يحفزها إلى حمل السلاح.
ما من بنية تغنم الصحة بغير رياضة، سواء في ذلك البنية الحيوانية والبنية السياسية، ولا ريب أن الحرب العادلة هي أفضل الرياضات للدول والحكومات.
إن للحرب الأهلية حرارة كحرارة الحمى، ولكن الحرب الخارجية تبث في بنية الأمة حرارة كحرارة الرياضة، وتحفظ عليها صحتها في حين أن السلم الراكد يبتلي الشجاعة بالتأنث والأخلاق بالفساد.
وإذا نظرنا إلى السعادة دون العظمة، فمن دواعي السعادة ولا ريب تعزيز السلاح، فإن قيام جيش قوي عريق (وإن كبرت تكاليفه)؛ ليصون القانون أو يصون على الأقل سمعة الأمة بين جيرانها ، كما يرى ذلك جيدا في أسبانيا، حيث تحتفظ في جانب منها أبدا بجيش قائم عريق، يوشك أن يظل قائما على الدوام، وقد مضى الآن زهاء مائة وعشرين سنة.
Неизвестная страница