فقد كان الاحتفال إذن بالأسلوب على قدر العناية والتقدير، ولم يكن على قدر الملكة البلاغية التي صحبته ولم تفارقه في الشباب، ولا في الشيخوخة، فأودع فيها كل فنه بعد أن كان يوليها منه الطرف اليسير.
ولكنه الطرف اليسير في الأداء لا في التأمل والتفكير، فإنه قد وفاها حقها من النضج والتمحيص، سواء ما كتبه منها في الكهولة وما كتبه في الشباب .
إنه لنسيج واحد في الأسلوبين، ونصيبهما من الجودة والنظافة وجمال الهندام واحد لا تباين فيه، وإنما التباين كله في التحلية والترصيع، وفي الوشي والتنسيق. •••
فمقالات باكون في بواكيرها كانت طوائف من المتفرقات الفكرية، تجمعها سلسلة الموضوع والعنوان في إيجاز شديد غير محتفل فيه بالتفصيل والتوضيح، كأنما يكتبها الكاتب لنفسه فهو غني عن تفصيلها وتوضيحها لعلمه بمقصده منها حين الحاجة إليه، أو كأنما هو يكتبها بلغة الاختزال الفكري التي يفهمها المرتاضون على قراءة هذا الضرب من الاختزال، ويجهد في شرحها غير المرتاضين عليه.
ثم جنحت في صيغتها الأخيرة إلى التسمح بعد التزمت، والسخاء بعد الضنانة، والتفسير بعد الإيماء والاقتضاب، وازدانت في هذه الصيغة بأجمل ما يزدان به النثر البليغ من براعة التشبيه، وطرافة الأمثولة، واختيار الشواهد من المأثورات اللاتينية واليونانية في سياقها الملائم، وموقعها المنتظر، وتم العجب في أمر باكون خاصة بين كتاب العلية المختارين، فإن الشائع في عالم الأدب أن الجمهور يوجه الكاتب إلى وجهته، ويرى له أحيانا غير ما يراه لنفسه إذا كان من كتاب الجماهير، ولكنه - أي الجمهور - يعجز عن توجيه العلية بين الكتاب في باب من الأبواب، فينقاد لهم أو يتركهم لما يحلو لهم ويحلو لقرائهم الممتازين، فإذا بكاتب العلية الأول - فرنسيس باكون - يقدم لنا أندر الأمثلة على تجاوب الفهم والشعور بين القراء والكتاب كافة من كل طبقة، ومن كل طراز، ويرينا في غير شك ولا غموض أن الجمهور لا يقف بتوجيهه عند كتابه المنقطعين له، والمقصورين عليه، بل يتعداهم أحيانا إلى صفوة العلية بين الحكماء والأدباء، فيوجههم تارة إلى الحسن المحمود، وتارة إلى الشائن المعيب ... وقد كان توجيهه لباكون في أسلوب المقالات خاصة إلى خير مما اختاره لنفسه الحكيم الأريب.
فقد استخلص منه - بفضل الفهم والإقبال - نخبة ما أبدع واستحق به البقاء، وعاش به بين العلية والسواد على السواء، فخرجت المقالات على صورتها المهذبة ذخرا لا يفوقه ذخر أدبي في وفرة جواهر البلاغة، ونصاعة خواطر التفكير، وكثرة ما يصلح منها للاقتباس؛ حتى ليوشك أن تتلاحق العبارات كلها صالحة للتمثيل والاستشهاد، وهي على تكرار بعض الشواهد والأماثيل فيها ليست مما تمل فيه الإعادة لوقوع كل تكرار في موقعه الذي لا يغني فيه سواه.
وليقل من شاء ما شاء في شروط المقالة كما اصطلح عليها النقاد والكتاب المقاليون، فهذه المقالات تؤخذ على نمطها الفريد ولا يضيرها أن تخالف به سائر الأنماط، وليس من اللازم أن تتوافى المقالات جميعا على السنة الشائعة في عرف النقاد والقراء، ففي غير النمط الشائع مجال للخصوصيات المتفردة على حسب القرائح والطبائع والموضوعات.
وإذا كان باكون قد ابتعد بالمقالة عن نمط الحديث والفكاهة، فإنه قد علا بها صعدا ولم يهبط بها إلى قرار دون ذلك القرار؛ لأنه اقترب بها من ترتيل الذاكرين وتنسيق الشعراء، فكان نثره أجدر كلام أن ينسقه شاعر مبين.
ليس باكون بشاعر على التحقيق.
أو هو ليس بالشاعر حين يكون الشعر جيشانا في الحس، وقلقا في البديهة، ونفاذا إلى أغوار الضمير، وخيالا يحلق في السماوات ويغوص إلى الأعماق.
Неизвестная страница