ولكن توكيد هذين الغرضين في زمان باكون كان من ألزم الأمور؛ لأن الإفراط في إهمالهما كان مدعاة للإفراط في ذلك التوكيد، ويحتاج المرء لا جرم إلى رفع الصوت طويلا حين يطول الإعراض وتصدف الأسماع.
وقد كان الناس يحتقرون الانتفاع بالعلم؛ لاعتقادهم أن الآخرة هي محور كل علم، وأن الزهد في الدنيا هو صبغة العلماء، ومنهم من يدين في ذلك بمذهب بعض الفلاسفة النساك، الذين لا ينظرون إلى الزهد من ناحيته الدينية، وعلى رأسهم فيلسوف المتقشفين فيثاغوراس الذي ظهر في القرن السادس قبل الميلاد، فإنه على اشتغاله بالسفارة السياسية كان يرى أن حياة التأمل هي حياة السعادة والكمال، وأن أفضل الناس لا يكونون من أهل البيع والشراء، ولا من السابقين في المضمار والميدان، ولكنهم هم المفكرون والمتأملون ... وعلى هذا القول يجيب باكون فيقول: إن الدنيا مسرح لا يملك الإنسان أن يتفرج عليه؛ لأنه هو اللاعب فيه، وإنما يقف منه موقف المتفرج ملائكة السماء.
فمن الزهد إلى مزج العلم بالدنيا مرحلة لا غنى فيها عن التوكيد والمبالغة، وهذه هي المرحلة التي كتب على باكون أن يتحول بالأجيال الإنسانية إليها، وأن يبالغ في النداء بها كما يبالغ كل مناد على الضالين في الطريق.
فجعل هجيراه أن يقرر غرضا واحدا للمعرفة الإنسانية، وهو تسخير الطبيعة وتوجيه قوانينها إلى مصالح الجماعات والأفراد، وكان يقول في شيء من السخر: إن المعرفة ليست بالقنبرة التي تعلو في طباق الجو لتهتف وتغني، ولا تصنع شيئا غير الهتاف والغناء، ولكنها هي الصقر الذي يحلق في الجو ليرى موقع الفريسة، وينقض إلى الأرض بين حين وحين.
وقد أشار ببناء البيوت العلمية للبحث عن قوانين الطبيعة، وخصائص المادة في البر والبحر والهواء، وأغوار الأرض وأجساد الأحياء، ووصف في كتابه «طوبى الجديدة» أو أطلانطي الجديدة بيتا من هذه البيوت سماه بيت سليمان، ويعتبره مؤرخو العلم قدوة لمعامل العصر الحديث المعنية بالتحليل والتطبيق، ومثالا للمجامع أو الأكاديميات الحاضرة تحتذيه، ولا تتجاوز المقاصد التي رسمها في ذلك الكتاب.
وسبيل الوصول إلى ذلك عنده هو إحصاء المشاهدات العامة، والانتقال بها من طبقة إلى طبقة في التخصيص والتوحيد، حتى ننتهي بها إلى جامعة واحدة تجمعها فيما يسميه ال
form
أي: النمط أو السنة أو النوع، وعنده أن هذه الأنواع معدودات لا تتجاوز العشرات، وهي كما يسميها أبجدية الطبيعة التي تنحصر فيها حروفها، وإن تعددت كلماتها حتى بلغت الألوف وعشرات الألوف.
ولا يرى باكون بداهة أن إحصاء المشاهدات جميعا مستطاع، أو لازم للوصول إلى تقرير النمط أو السنة أو النوع، فالاختيار هنا - على نظام من النظم المطردة - ضرورة لا محيص عنها للباحث عن حقائق العلوم من وراء المشاهدات، وإلا كان - على حد قوله - كمن يحاول أن يحوش الصيد في أرض فضاء بغير حدود، أو بغير حيز مسدود.
وطبقات الحصر والغربلة عند باكون تسمى بالجداول، وهي ثلاثة: الجدول الأول، وهو يشتمل على الأشياء التي بينها وجوه مشابهة في عوارض الظاهرة الطبيعية، التي يراد البحث عنها، والجدول الثاني وهو يشتمل على الاختلاف بين تلك الأشياء، والجدول الثالث وهو يشتمل على المقارنة بين درجات الاختلاف زيادة ونقصا، وقوة وضعفا؛ ليعرف الباحث من الزيادة في بعض العوارض والنقص في بعضها أين يتجه السبب الصحيح، وتكمن العلة الحقيقية، فإذا تساوى سببان في القوة والبروز، فسبيل باكون في هذه الحالة أن يرجع إلى ظاهرة أخرى لعله يصيب فيها أسبابا مقابلة ترفع اللبس، وتدل على معالم الطريق؛ ولهذا يسميها أسباب المعالم؛ لأنها تقف على المفترق وتشير للسالك إلى مسلكه، حيث يلتبس عليه طريقان أو أكثر من طريقين.
Неизвестная страница