وفي حادثة إسكس كان الباعث الأكبر له هو الإشفاق من إغضاب الأقوياء، واغتنام الفرصة لبلوغ الرجاء، ويساق له مساق العذر أنه يتقيد بخدمة صديقه وحده حين أحسن إليه هذا بالوصايا والهبات، بل صارحه بأن الوفاء له على سنة رجال القانون يقتضي العدل في الوفاء للدولة والتاج وأقطاب البلاد، فكتب له من بداية الأمر رسالة يقول فيها:
مولاي! إني أرى أنني أدين لك بالوفاء، وأضع يدي على أرض من هبة يديك، ولكن أتعلم يا مولاي كيف يجري عهد الوفاء في عرف القانون؟ إنه يكون أبدا برعاية الولاء للتاج ونبلائه الآخرين، ومن ثم لا يسعني يا مولاي أن أكون لك أكثر مما كنت ...
ثم يساق له بعد هذا مساق العذر أنه حذر صديقه من ولاية أيرلندة ؛ لأنها تبعده من البلاط وتمهد لأعدائه سبيل الوقيعة بينه وبين الملكة في غيابه، ولا أمل له في إخضاع الأيرلنديين المتمردين؛ لأنه سيلقى منهم ما لقيه يوليوس قيصر من الغاليين والبريطان والجرمان ... قيل: إنه نصح له بهذه النصيحة ثم أنس منه الرغبة الشديدة في الولاية، فأدركته طبيعة الإشفاق أن يفقد مودة الرجل وحسن ظنه، فعدل عن التحذير إلى الإغراء، وكتب له يقول: إنه لكفيل بتمدين هؤلاء المستوحشين، كما تمدن المستوحشون من قبل على أيدي قادة الرومان!
ومهما يكن من الشك في إزجاء النصيحة الأولى، فالذي لا شك فيه أن باكون سعى في الصلح بين الملكة وصديقه، ثم عالج ما استطاع أن يثنيه عن عزمه على حمل السلاح، وإكراه الملكة عنوة في ميدان القتال، ثم كان له أمل - بل كانت له ثقة - في عفو الملكة عن ذلك الصديق، لما ذاع وشاع بين الخاصة والعامة من إعجابها به وإعزازها إياه.
أما الرشوة فقد كانت شائعة بين قضاة زمانه، وكانت كالهدايا التي يتبادلها أصحاب المصالح المشتركة، وإن لم تكن مباحة في القانون، ويساق له مساق العذر كما قدمنا أنه كان يحكم بالعدل ولم يثبت عليه حكم واحد بالظلم مع ثبوت الرشوة عليه في نيف وعشرين قضية.
وأضعف ما يعاب به خنوعه المزري للورد بكنجهام، حين نمى إليه أنه غاضب عليه، فذهب إلى قصره يومين متواليين، ولبث طوال الوقت في حجرة الانتظار بين الخدم والأتباع، وارتضى لنفسه وهو شيخ وقور وموظف من أكبر موظفي الدولة، أن يخر على ركبتيه أمام الفتى المتعجرف؛ ليهوي على قدمه فيقبلها ... ويقسم لا ينهض من مجثمه الذليل حتى يسمع من اللورد كلمة الغفران! وكل ذلك؛ لأن اللورد بكنجهام كان يبحث لأخيه عن زوجة غنية، فوقع اختياره على بنت إدوارد كوك منافس باكون القديم، ورضي الأب ونفرت الأم من هذا الزواج، فأعان باكون الأم على زوجها وأوعز إلى النائب العام أن يؤيد حقها، ثم اتصل به أن هذا القران «المالي» يهم اللورد بكنجهام أقرب المقربين إلى الملك جيمس وصاحب الكلمة النافذة في البلاط، فأسرع إلى الزوجة ينفض يديه من مساعدتها، ويبلغها أنه لا يستطيع شيئا في قضيتها، وتراجع في قراره وأوعز إلى النائب العام بالتراجع في دعواه، ثم لم يكفه هذا التكفير عن خطئه، حتى أمعن في التذلل والخنوع ذلك الإمعان المهين.
ومن الإنصاف لباكون أن نذكر له فضله على أبناء عصره في أخلاقه الوطنية أو أخلاقه الدستورية، فإن الرجل لم يكن خاضعا لآداب عصره، في كل شعبة من شعب الأخلاق، وكل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية، وكان على قدر خضوعه لآداب العصر في مسائل البذخ والطمع رجلا ممتازا على الكثيرين من معاصريه في الآداب الوطنية، أو الآداب الدستورية كما نسميها في العصر الحاضر. فلم تمنعه مداورته الفطرية أن يتحرج أشد الحرج من المساس بحقوق المجلس النيابي في صميمها، وكل ما صنعه لمرضاة البلاط لم يتجاوز حدود المجاملة بالصيغ والعبارات، أو حدود المراسم والتحيات، فلما شرعت الملكة في طلب المزيد من الامتيازات والحقوق المالية على أثر المؤامرة الأسبانية التي كشفت في إسكوتلاندة كان باكون معارضا لهذا الطلب، وكانت معارضته المفحمة سببا لتراجع اللوردات في اللحظة الأخيرة، وظلت الملكة غاضبة عليه من أجل ذلك طوال حياتها، وإن أطعمته بالرضى بين حين وحين.
ولما حل جيمس أول مجلس نواب جرى انتخابه في زمانه، وأراد أن يكل تقدير الضرائب إلى لجنة عليا، يشترك فيها باكون وبعض زملائه، لم يتوان باكون عن النصح له بالتريث والعدول عن هذا الخاطر الوبيل، وقد يقال على الجملة: إنه أسدى إلى البلاط في مسائل الدستور نصائح شتى لعلها كانت مجدية في اتقاء الثورة، التي تراءت نذرها في ذلك العصر لو قوبلت بالإصغاء والقبول.
وقد عرف له الناخبون هذا الفضل، فأعادوا انتخابه في كل مجلس من دوائر كثيرة في المدن والأقاليم، وعرفه له النواب فمنحوه حقا تفرد به بين كبار الموظفين في زمانه، وذلك هو حق البقاء في المجلس مع قيامه بمنصب النائب العام، وتحريم ذلك على من يلي هذا المنصب بعده من النواب.
وعلى كل هذا كان زملاؤه النواب أحيانا يجهلون ما يعلم، ويقصرون عن النظر إلى العواقب التي يلمحها من بعيد، فأحبطوا سعيه في التوحيد بين إنجلترة وإسكوتلاندة، على الرغم من ذلك الخطاب الطنان الذي ألقاه عليهم في أوائل سنة 1607، واشترك النواب ورجال البلاط في إحباط سعيه للتوفيق بين العرش والأمة، وحسم مادة النزاع الدائم على الامتيازات والضرائب والإتاوات. وكان قد اقترح لحسم هذا النزاع أن ينزل الملك عن حقوقه الإقطاعية، وأن تخصص له الدولة من خزانتها مائتي ألف جنيه كل عام، وهذا هو الأساس الذي تم عليه الاتفاق والتوفيق بعد فوات الوقت ونزول القضاء، ولكنهم جهلوه واستخفوا به في حينه وأبوا إلا التورط في الجرائر، التي حاول أن يعفيهم منها وهم من حوله صم بكم لا يفقهون.
Неизвестная страница