Великое раздорение (часть первая): Усман
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Жанры
فنحن نعلم أن قد كان للدين سلطانه في اختيار الملوك والقياصرة عند الرومان، وفيما يكون من سيرة هؤلاء الملوك والقياصرة. ولكن الفرق بين النظام الروماني والإسلامي، هو الفرق بين دين ودين، كما أنه الفرق بين جنس وجنس وبين بيئة وبيئة؛ فلم يكن للدين الذي سيطر على ملوك الرومان خاصة وعلى قياصرتهم إلى حد ما، من النقاء والسمو ما يشبه نقاء الديانات السماوية من قريب أو بعيد. إنما كان دين الرومان يقوم على العيافة والزجر واستطلاع ضمائر الغيب بطرق نقرؤها الآن فنبتسم لها ونضحك منها، وكان تطور الشعب الروماني من حياته الساذجة الأولى إلى حياته المعقدة مباعدا كل البعد لتطور الشعب العربي من جاهليته إلى إسلامه؛ فقد كان التطور الروماني ماديا، إن صح هذا التعبير، نشأ من تقدم الحضارة قليلا قليلا؛ على حين كان التطور العربي معنويا، نشأ من تغير النفس العربية بتأثير الإسلام، فكأنه كان تطورا من داخل إلى خارج، تغيرت النفس العربية فتغيرت الحياة المادية للعرب؛ على حين كان التطور الروماني من خارج إلى داخل، تغيرت ظروف الرومان الخارجية فتطورت نفوس الرومان وضمائرهم.
والبيئتان من بعد ذلك مختلفتان بمقدار ما يكون الاختلاف بين إيطاليا والحجاز: فليس غريبا ألا يكون هناك تشابه بين نظام الحكم الروماني أيام الملوك وأيام القياصرة، ونظام الحكم في الصدر الأول للإسلام.
وأكاد أتصور تشابها بعيدا أو قريبا بين نظام الحكم الروماني أيام الجمهورية ونظام الحكم الإسلامي بعد وفاة النبي؛ فقد كان الرومانيون يختارون قناصلهم على نحو يوشك أن يشبه اختيار المسلمين لخلفائهم، وإلى شيء من ذلك نحا الأنصار حين قالوا للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. ثم كان سلطان القنصل بعد اختياره يشبه في عمومه وشموله سلطان الخلفاء، إلا أن سلطان القنصل كان موقوتا بسنة واحدة، وكان سلطان الخلفاء يمتد مدى الحياة بعد اختيار الخليفة، وكان سلطان القنصل مقيدا بالقوانين التي تصدرها جماعة الشعب والقرارات التي يصدرها مجلس الشيوخ، كما كان سلطان الخليفة مقيدا بالحدود التي رسمها الدين، وبما يرى كبار الصحابة من رأي، وبما تميل إليه أو تنحرف عنه عامة المسلمين. ولكن هذه كلها وجوه للتشابه يظهر فيها التكلف والتصنع والإبعاد، فإذا أضفنا إليها مظاهر الحكم التي كانت تحيط بالقنصل ولم يكن يحيط منها بالخليفة شيء. وإذا أضفنا إلى ذلك بعض النظم التي اقتضتها ظروف الجمهورية الرومانية لتقييد سلطان القنصل وحماية العامة من تحكمه، كنظام الزعماء الذين كانت الدهماء تنتخبهم ليكفوا عنها جور القنصل إن هم القنصل بشيء من الجور - أقول: إذا أضفنا هذه الفروق إلى وجوه الشبه تلك المتكلفة، كان من الواضح أن ليس هناك صلة قريبة أو بعيدة بين نظام الحكم العربي في ذلك العهد القصير وبين نظم الرومان في عهد الملوك أو عهد الجمهورية أو عهد القياصرة.
ليس من شك في أن المسلمين قد اقتبسوا كثيرا من نظم القياصرة والأكاسرة في السياسة والإدارة والحرب، ولكن هذا الاقتباس جاء متأخرة جدا عن العصر الذي نتحدث فيه؛ فلننصرف إذن عن هذا التشابه الذي لا يقوم على أساس متين.
لم يكن نظام الحكم الإسلامي في ذلك العهد إذن نظام حكم مطلق، ولا نظاما ديمقراطيا على نحو ما عرف اليونان، ولا نظاما ملكيا أو جمهوريا أو قيصريا مقيدا على نحو ما عرف الرومان، وإنما كان نظاما عربيا خالصا بين الإسلام له حدوده العامة من جهة، وحاول المسلمون أن يملئوا ما بين هذه الحدود من جهة أخرى.
وقد قلت في بعض أحاديثي عن نشأة النثر عند العرب: إن القرآن ليس شعرا ولا نثرا، وإنما هو قرآن له مذاهبه وأساليبه الخاصة في التعبير والتصوير والأداء، فيه من قيود الموسيقى ما يخيل إلى أصحاب السذاجة أنه شعر، وفيه من قيود القافية ما يخيل إليهم أنه سجع، وفيه من الحرية والانطلاق والترسل ما قد يخيل إلى بعض أصحاب السذاجة الآخرين أنه نثر؛ ومن أجل هذا خدع المشركون من قريش، فقالوا إنه شعر، وكذبوا في ذلك تكذيبا شديدا، ومن أجل هذا خدع كذلك بعض المتتبعين لتاريخ النثر فظنوا أنه أول النثر العربي، وتكذبهم الحقائق الواقعة تكذيبا شديدا. فلو قد حاول بعض الكتاب الثائرين - وقد حاول بعضهم ذلك - أن يأتوا بمثله لما استطاعوا إلا أن يأتوا بما يضحك ويثير السخرية.
قلت ذلك بالقياس إلى القرآن، وأريد أن أقول شيئا قريبا منه بالقياس إلى نظام الحكم العربي الإسلامي في ذلك العهد، فهو لم يكن ملكا، ولم يكن يؤذي النبي وصاحبيه شيء كما كان يؤذيهم أن يظن بهم الملك، وهو لم يكن جمهوريا، فلم نعرف في نظم الجمهورية نظاما يتيح للرئيس المنتخب أن يرقى إلى الحكم فلا ينزله عنه إلا الموت، ولم يكن قيصريا بالمعنى الذي عرفه الرومان، فلم يكن الجيش هو الذي يختار الخلفاء، فهو إذن نظام عربي إسلامي خالص لم يسبق العرب إليه، ثم لم يقلدوا بعد ذلك فيه، وهذا لا يعفينا مع ذلك من أن نحلله ونتبين دقائقه لنرى أكان قادرا على البقاء أم كان خليقا أن يتغير متى تغيرت الظروف التي أحاطت بنشأته ثم بتطوره.
وأول ما نلاحظ من العناصر التي كان هذا النظام يأتلف منها، العنصر الديني؛ فلم يكن هذا النظام، كما قلت آنفا، نظاما سماويا، وإنما كان نظاما إنسانيا، ولكنه على ذلك تأثر بالدين إلى حد بعيد جدا. لم يكن الخليفة يصدر عن وحي أو شيء يشبه الوحي في كل ما يأتي وما يدع، ولكنه على ذلك كان مقيدا بما أمر الله به من إقامة الحق وإقرار العدل وإيثار المعروف واجتناب المنكر والصدود عن البغي.
وهذا الوحي الذي اتصل ثلاثة وعشرين عاما يصابح المسلمين ويماسيهم، ينزل قرآنا مرة، وينطق به النبي حديثا مرة أخرى، ويجريه النبي بسيرته العملية سنة متبعة مرة ثالثة، قد أيقظ في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميرا دينيا قويا دقيقا حيا إلى أبعد غايات القوة والدقة والحياة، فلم يكن من الممكن أن يتخلص منه المسلم في قول أو عمل أو تفكير، بل لم يكن من الممكن أن يخلص منه في يقظة أو نوم، فصلته بالرعية إن كان حاكما، وبالحاكم إن كان رعية ، وبنظرائه في حياته اليومية؛ متأثرة دائما بهذا الضمير، وهذا هو الذي يخيل لكثير من الناس أن نظام الحكم في ذلك الوقت قد كان نظاما يتنزل من السماء إلى الأرض؛ وليس الأمر كذلك، وإنما هو يدور مع مقدار ما يكون لضمير الخليفة ورعيته من التأثر بالدين.
أما العنصر الثاني من العناصر التي ائتلف منها هذا النظام، فهو عنصر الأرستقراطية التي لا تعتمد على المولد ولا على الثروة ولا على ارتفاع المكانة الاجتماعية بمعناها الشائع العام، وإنما تعتمد على شيء آخر أهم من هذا كله: وهو الاتصال بالنبي أيام حياته، والإذعان لما كان يأمر به وينهى عنه في غير تردد ولا شيء يشبه التردد، والإبلاء بعد ذلك في سبيل الله في أوقات السلم والحرب جميعا.
Неизвестная страница