30

الدكتور علي بك إبراهيم

رقيق الجسم، أدنى إلى أن يكون هزيله، أسمر اللون، مستطيل الوجه، غليظ الشفتين في غير قبح، واضح الثنايا، لعينيه بريق وفيهما جمال. متفخم اللفظ، تاؤه بين التاء والطاء، وزايه بين الزاي والظاء، وادع النفس، هادئ السعي، خفيف الروح، ظريف المجلس، لا يجد العنف إلى عواطفه سبيلا، يقصد في طربه، كما يقصد في غضبه.

فيه حد الفتى وحلم المزكى

وحجى الكهل وارتياح الغلام

ولعل هذا الهدوء العجيب من أبلغ العناصر في نجاحه في عمله المرعب الدقيق، وشأنه كشأن جميع النوابغ في الدنيا: ليس لهم من مظاهرهم ما يدل على أخطارهم، إلا أنك لا تستطيع ألا تلحظ أن لهذا الرجل أصابع ليست من جنس أصابع سائر الناس، فإنها تسترعيك بطولها وسراحتها وانسجام خلقها، على أنه إذا تحدث رأيته يستعين دائما بسبابته ووسطاه، فما تزالان كالمقص في انفراج والتئام إلى أن يفرغ من حديثه، حتى إنك لتعرفه من أصابعه كما تعرفه من وجهه، ولو قدر لمصور أن يرسم أصابعه وحدها لدلت عليه إلى غاية الزمان.

لقد تسنم غارب المجد، وبلغ من الشهرة ما تتقطع دونه علائق الآمال، وهو مع هذا لا يحفل قط بما كان ولا بما سيكون ولا بما سوف يكون، ولا تحسبه يطمع في أكثر من أن يعيش في غمر الناس كسائر الناس.

فيه شفاء للناس.

يا له من رجل! لقد تكون في مجلسه معه غيرك، ولقد تكون معه وحدك وأنت مفيض أسبابه ومطلع سره، فتعرض ذكرى فلان الجراح فيقول لك: «بالك فلان ده، ويومئ لك بأصبعيه سالفتي الذكر، ده والله جراح ما له مثيل! ده شيء من فوق التصور! لو كان للجدع ده بخت ماكانش حد زيه في الدنيا!» يقول هذا في رضا وصدق نفس وراحة أعصاب! ... والواقع أنني لا أدري أكان هذا كله قد جاءه من طبيعة صفاها الله من كل ما يتداخل أرباب الفنون، أم أنه تمكن من نفسه واستوثق من أنه لن يتعلق أحد بغباره مهما افتن لإخوانه الجراحين في ألوان الشهادات!

ثم هو شديد العطف على إخوانه الأطباء عامة، عظيم العون لجماعتهم، رطب اللسان فيهم.

ومن أظرف نوادره، أن رجلا من كبار الأغنياء قدم إليه يشكو علة لا تتصل بالجراحة، فقال له: يا عم لا شأن لي بمرضك، فاذهب إلى الدكتور فلان أو الدكتور فلان أو الدكتور فلان، فهم الذين يحسنون «تشخيص» علتك، ويقدرون على علاجك. فقال الرجل: بل إنما قصدت إليك أنت ولست أرضى أحدا يداويني غيرك، وجئت معي بكذا وكذا من الأموال فخذ مني، على أن تعالجني، ما تشاء! فقال له الدكتور: وأنت إذا أعطيتني ما تشاء فلن أداوي علتك؛ لأنها ليست من عملي ولا تتصل بفني، إنما أنا رجل جراح. فألح الرجل وتضرع، فلما أعياه أمره قال له: اسمع يا عم، لو تلف «كالون» بيتك، هل تجيء له بنجار أم بكواليني؟ فقال: بل بالكواليني. فقال له: مرضك هذا أنا لا أعرف فيه. قال الرجل: فماذا تصنع إذن؟ قال له: أنا أفتح لك كرشك، أكسر رجلك، أقطع رقبتك! وهذا الذي أعرفه. فانصرف الرجل مقتنعا راضيا!

Неизвестная страница