أريد أن أكتب عن سعد، ومن الغرور أن أظن بقلمي الوفاء بوصف سعد مهما تفرج له في جوانب البيان، فإن البيان إنما يجري في غايته إلى ما تعاهده الناس من الطبيعة ومن الناس! أما تلك النفحات الإلهية التي يرسلها الله تعالى في العصور الطوال ثنيا
5
بعد ثني ليقيل أهل الأرض الزلة، ويهديهم من الضلة، فذلك ما تعجز عنه اللغى ويقصر من دونه البيان.
وبعد، فإذا أردت أن تصف للناس سعدا، فلن تستطيع أن تصفه بأبرع من لفظة «سعد»، فقد جمعت من وجوه المعاني ما لا يبلغه الكلام، وإن قدرته العقول وتعلقت به الأفهام.
زيور باشا
أما شكله الخارجي، وأوضاعه الهندسية، ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية؛ فذلك كله يحتاج في وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة. والواقع، أن زيور باشا رجل - إذا صح هذا التعبير - يمتاز عن سائر الناس في كل شيء ، ولست أعني بامتيازه في شكله المهول طوله ولا عرضه ولا بعد مداه، فإن في الناس من هم أبدن منه، وأبعد طولا، وأوفر لحما، إلا أن لكل منهم هيكلا واحدا. أما صاحبنا فإذا اطلعت عليه، أدركت لأول وهلة أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض، وإنك لترى بينها الثابت وبينها المختلج، ومنها ما يدور حول نفسه، ومنها ما يدور حول غيره، وفيها المتيبس المتحجر، وفيها المسترخي المترهل. وعلى كل حال فقد خرجت هضبة عالية مالت من شعابها إلى الأمام شعبة طويلة، أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان، طلة من يرتقب السقوط إلى قرارة ذلك المهوى السحيق!
وإنك لتجد ناسا يصفون زيور بالدهاء وسعة الحيلة، بينما ترى آخرين ينعتونه بالبساطة، وقد يتدلون به إلى حد الغفلة. كما تجد خلقا يتحدثون بارتفاع خلقه وتنزهه عن النقائص، إذ غيرهم ينحطون به إلى ما لا تجاوره مكرمة، ولا يسكن إليه خلق محمود!
كذلك زيور عند الناس مجموعة متباينة متناقضة متشاكسة، فهو عندهم كريم وبخيل، وهو شجاع ورعديد، وهو ذكي وغبي، وهو طيب وخبيث، وهو داهية وغر، وهو عالم وجاهل، وهو عف وشهوان، وهو وطني حريص على مصالح البلاد، وهو مستهتر بحقوق وطنه، يجود منها بالطارف والتلاد!
كل أولئك زيور، وكل هذا قد يضيفه الناس إلى زيور، فلا تكاد تسعهم مجالسهم بما يأخذهم فيه من الدهشة والاستغراب. وإذا كان هذا مما لا يمكن في الطبيعة أن يستقيم لرجل واحد فقد غلط الناس إذ حسبوا زيور رجلا واحدا. والواقع أنه عدة رجال، وعلى الصحيح هو عدة مخلوقات، لا تدري كما حدثتك، كيف اتصلت ولا كيف تعلق بعضها ببعض! فإذا أدهشك التباين في أخلاقه، وراعك هذا التناقض في طباعه، فذلك؛ لأن هذا الجرم العظيم الذي تحسبه شيئا واحدا مؤلف في الحقيقة من عدة مناطق، لكل منها شكله وطبعه وتصوره وحظه من التربية والتهذيب. فمنها العاقل ومنها الجاهل، ومنها الحكيم ومنها الغر ، ومنها الكريم ومنها البخيل، ومنها المصري ومنها الجركسي، ومنها الفرنسي، ومنها الإنجليزي، ومنها المالطي ... إلخ؛ كل منها يجري في مذهبه ويتصرف في الدائرة الخاصة به، فلا عجب إذا صدر عن تلك المجموعة الزيورية كل ما ترى من ضروب هذه المتناقضات!
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!
Неизвестная страница