كان حمى الكونت دي موري رجلا تتيه به البحرية الفرنساوية؛ لأنه مثال الشرف والإقدام، واسمه الأميرال فيرمن دي لامارش، بلغ الثمانية والستين من عمره، وعمل أعمالا كانت بحار الدنيا ميادينها، فما مر به عام منذ حداثته إلا وشن فيه حربا على الرجال أو على العناصر، فكان السابق إلى أهوال القتال، وكان السابق إلى الخطر والمجد، فلا ترد صفحة من تاريخ البحرية الفرنساوية إلا واسمه مدون فيها بأحرف من ذهب، وزد على ذلك أنه كان طيب القلب، سخي الكف، عادلا، وديعا، محبوبا ومن الضباط التابعين له.
أما زوجته فكانت أصغر منه سنا، ولا تزال عليها لمحة من الحسن الباهر، وكأنها متوجة من شعرها بتاج ناصع البياض، ولم يرزق هذان الزوجان إلا ابنتهما لورانس، زوجة الكونت دي موري، ولا تسل عن شدة حزن تلك الوالدة لما علمت بأن صهرها سيرتحل إلى الهند ليتقلد منصبه فيها، لكنها لم يسعها إلا الامتثال بحكم القدر، ولما وردت رسالة برقية على زوجها الأميرال عن قدوم صهرهما الكونت مع ابنتهما قال الأميرال لزوجته: هل تعلمين من أين جاءت هذه البرقية؟ فأجابته: نعم، فسؤالك يدل على أنها واردة من بوندشيري.
قال: نعم، فهي من ابنتك، ولكنها لم ترد من بوندشيري، أما بوليت، وكانت مريضة كما تعلمين، فهي أحسن حالا، بيد أنها باقية في الهند مع عمتها، أما مصدر الرسالة التلغرافية فمدينة عدن، فاختطفت الرسالة البرقية من يدها وقرأتها وهذه صورتها:
إننا سافرنا فجأة من بوندشيري؛ لأن زوجي روجر أصيب بمرض هائل وقد زال عنه الخطر، وبقيت بوليت مع عمتها في بوندشيري، وهي تتماثل إلى العافية، وسيكون وصولنا إلى مرسيليا يوم 20 يونيو، ونراكم بخير.
لورانس
فعزمت مدام دي لامارش على السفر إلى مرسيليا لتستقبل ابنتهما وصهرهما، أما الأميرال فإن عمله في باريس قضى عليه بالبقاء فيها، فسمح لزوجته بالسفر وحدها.
وبعد تبادل القبلات والتحيات رأت لورانس أن تشاور الطبيب في أمر مرض زوجها خيفة أن يضر به سرعة السفر إلى باريس، فأشار عليه بأن لا يسافر إليها ولكن يقصد إلى هيار، أو نيس، أو مانتون، أو كان، وآثر له المدينة الأخيرة وقال له: أقم في رأس أنتيب؛ فهناك فندق الكاب، وهو يجمع بين الراحة وجودة الخدمة والزخرفة وجمال الموقع والإتقان في كل شيء؛ ولهذا يقصد إليه السياح من كل فج، فأعجبوا بهذا الرأي، ولما انصرف الطبيب كان قد تقرر السفر، وفي اليوم التالي سافروا إلى رأس أنتيب فاكتروا لهم جناحا في هذا الفندق المتسع، وكانت نوافذه تشرف على الخليج وجزر سنت مرغريت ومدينة «كان» وبيوتها البيضاء والوردية اللون، وجبال الألب يتوج الثلج قممها فتتألق تحت نور الشمس كأنها تيجان هائلة الحجم، مرصعة بكتل ضخمة من ألماس، وهو مشهد ساحر لا تمله الأبصار، وكان حول الفندق بستان، فحقول خضراء زبرجدية، ورائحة زهر الليمون والبرتقان تتضوع في أرجاء الفضاء، وحاصل القول: إن ذلك الموضع جنة من جنات عدن، يزيدها رونقا وبهاء كثرة المتنزهين فيها من نساء وأولاد يملئونها بهجة وسرورا.
وكانوا يجتمعون عند المساء فيجلسون إلى موائد الفندق في شرفاته، وينفقون قسما من الليل في أبهاء متألقة بالأنوار، حافلة بالأزهار، غناء بالألحان الموسيقية، والمراقص تتوالى، والحفلات تقام، وبالاختصار كانت أسباب السرور كثيرة، ولا عجب، فالنازلون في رأس أنتيب من كبار السياح وأشراف الناس، وهم سواء في كرم المحتد وسلامة الذوق وسعة الثروة.
وفي أول يوم من وصولهما اتفق أن جلس الكونت دي موري وأسرته قرب امرأة حسناء، لفت جمالها الأبصار ومعها رجل، ظن روجر وزوجته لأول وهلة أنه زوجها، غير أن خدم الفندق كانوا يدعونه عند الخدمة بيا سيدي، ويدعون المرأة بيا سيدتي الدوقة، وبعد العشاء استفهم الكونت دي موري فقيل له: إنهما إيطاليان وإنهما أخوان، واسم الرجل أنيبال بلميري، وأما المرأة فهي أرملة غنية واسمها: الدوقة دي لوقا.
وهنا يجدر بنا أن نخبر القراء كيف وصل بيبو وشقيقته جرجونة إلى هذا الفندق، واختلطا بكبراء الناس، فنقول بالاختصار: إنهما ورثا جياكومو بلميري وقبضا الأموال بعد وصولهما إلى باريس، فاستأجرا قصرا مفروشا، وبدآ يعيشان عيشة أهل الترف والثروة. فلما وافى فصل الشتاء سلكا سبيل الأغنياء والسياح فقدما إلى فندق كاب أنتيب، وطابت لهما الإقامة فيه بين أولئك الأقوام إلى أن انقضت شهور وأشرف الموسم على الانتهاء، وأخذت الدوقة دي لوقا تتأهب للرحيل، وأنبأت أخاها بعزمها، وكان كارها للسفر يقول: حرام مفارقة هذا المكان، فقالت له شقيقته: لا بد من رحيلنا بعد ثلاثة أيام، وكان هذا الحديث ليلة وصول الكونت دي موري وزوجته ووالدتها التي هي زوجة الأميرال دي لامارش.
Неизвестная страница