وكان الحاج حسن أبو عزيزة قد ضيع أكثر أمواله، ولم يكن يملك غير الدار التي يسكن فيها هو وعائلته، فلما حدث ما حدث لم يخبره أحد بالأمر، ولم يبلغه خبر انفصال ابنته الكبرى وكونها تركته فقيرا هو وابنه الصغير، وهما المظلومان بين الجماعة .
أما زبيدة وأمها والولد الصغير فبقوا في الدار وليس لديهم ما ينفقونه، فأخلوا جزءا كبيرا من الدار وعرضوه للسكنى، فسكنه بعض الإفرنج بعائلتهم، وكانوا يدفعون لهم في كل شهر شيئا زهيدا من المال يتعيشون به هم والرجل المريض المقعد، كل هذا وذلك المسكين لا يدري ماذا حل به وبعائلته.
وكان إبراهيم بعد هذه الحادثة يتخلف إلى دار زبيدة كل أسبوع مرة أو مرتين، ويجلس معها ساعة أو يبيت معها ليلة، وكان يعللها بالزواج، ويقول: إنه طلق أختها، وإنه استشار أباه فرضي بزواجه بزبيدة، وكانت المسكينة تحبه وتصدق كلامه، وتظنه غنيا كما كان يزعم، فتطلب منه مالا فيراوغها ويعدها ويخلف وعدها، وأخيرا لما رأى فقرها وفقر أمها، وعلم أنه لا يستطيع أن يسلب أكثر من عفتها، نفر منها، وغضب عليها، ثم اختفى مرة واحدة.
ولا ندري ماذا حل بعزيزة بعد أن تركت أهلها، ونظن أن إبراهيم عاد إليها وهي العاشقة المتمولة التي تعطيه المال، فاسترضاها وتاب إليها، فاشتغلت به واشتغل بها.
ولما وجدت زبيدة نفسها في ضيق شديد، وعلمت أن أباها هو العقبة الوحيدة في طريقها جالت برأسها فكرة شيطانية، ولكن الله أرحم من أن ينتقم من الرجل بأكثر من هذا، ولم يمكن الموت زبيدة من دس السم لأبيها، فإنها استشارت أمها وقبلت الملعونة، ولكن انتهى عذاب المسكين بلا سم، ومات وحوله زوجته وابنته وابنه، فنحن ندعو بالرحمة لنفس هذا المسكين المعذب الذي عاش مريضا محزونا متعبا، ومات ملوما محسورا معذبا. •••
ومن الغريب أن عزيزة لم تحضر دفن أبيها، ونظنها لم تسمع بموته، ولما مات الرجل، ونظرت زبيدة حولها فلم تجد من يحكمها ولا من يصونها ولا من يعوقها، استشارت أمها في الخروج من حياة الذل والاستكانة إلى حياة فيها نعيم وغنى؛ فشجعتها أمها، فباعتا البيت، وأخذتا الولد الصغير، وكان لا يتجاوز السادسة من عمره - وليته مات - ورحلتا في «طلب العلا» إلى المدينة الفاسقة، بابل الفجور، مدينة القاهرة، الأم لتنظر في شأن الولد، والبنت لتتجر في عرضها.
وكان لقدوم زبيدة إلى مصر طنة ورنة عند أهل «الحياة السافلة»، فتسابق إليها أصحاب المراقص، ثم استأجرها أحدهم بعشرين جنيها في كل شهر، وعلمها كيف ترقص ببطنها، وتغني وتشرب وتطرب.
هذه هي الفتاة منيرة التي يحبها مختار، فإنها لما وفدت إلى القاهرة غيرت اسمها من زبيدة إلى منيرة؛ لتختفي وراء هذا الاسم الجديد.
ولما اشتهر أمر منيرة بين الشبان الساقطين، ذهب مختار مرة ليراها، فراقت في عينيه، وراق في عينها، واصطحبا، ومن الغريب أن منيرة كانت قد ماتت من قلبها كل العواطف، وعلمت أن كل الناس يطلبونها ويحبونها، فلم تعد تحب الناس حبا طاهرا، إنما كانت تحبهم حبا صناعيا تستطيع به أن تملك قلوبهم وجيوبهم، وكذلك كان حبها لمختار، فإنها أظهرت له الميل الشديد لما رأته غنيا قادرا ينفق في كل يوم عشرة جنيهات ... ولا يبعد أن يكون شباب مختار وجماله قد أثرا في فكر تلك الفتاة، ووجدا من قلبها مكانا لم يصل إليه الفساد، فأحبته قليلا.
الفصل الثالث عشر
Неизвестная страница