فقال سعيد: «يعرف، ولكنه أبى أن يذهب إليه حين عاد من رحلاته لأنه استكبر أن يجعل نفسه حميلة عليه، وخشى أن يأنف ابنه من الانتساب إليه إذا وقف على حالته الزرية». - وهل قابل ابنه؟ - بالطبع ... وقال له حين رآه: من يصدق أنك ابنى؟ إنى أبدو أصغر منك.. على كل حال، يمكنك دائما أن تنسى أنى مازلت على قيد الحياة.. فما أشك فى أن عثورك على حيا صدمة لك بعد أن وطنت نفسك على موتى. وأحسب أن بعثى الآن قد خيب أملك فى.. كذلك قال لابنه.. مدهش.. إن ذهنه لا يزال حافظا لقوته.. قال لابنه فى جملة ما قال: إنى لما كبرت كنت أقول: لو عاش أبى لما عاشرته، لأنى أستنكف أن أكون فرعا وأحب أن أشعر أنى أنا أصل مستقل بنفسه عما عداه وعما غذاه ونماه. ولكن ذهنه يشرد أحيانا فيخلط فى كلامه، لأنه يكر راجعا إلى ذكرياته الطويلة فى حياته الحافلة، من غير أن يشعرك بالانتقال أو الرجعة.. فتحس أنك تهت وضللت طريقك، وقد تظنه يهذى ولكنه ليس هذيانا بل كر الذهن إلى الوراء فجأة بغير انذار. ولما قلت له أنك تبحث عنه، ضحك وقال هل يريد أن يغلفنى ويضعنى على رف.. وقال عن كتبه لما عرض ذكرها: إن خيرها ما لم يكتبه.. ولا تزال أسنانه باقيا بعضها، وقد قال لى إن متانتها وسلامتها من الآفات هما السبب فى بقائه حيا إلى الآن.. ولما قلت له إن من واجبه أن يملى مذكراته على بعضهم، صاح بى: «أعوذ بالله يا شيخ.. حرام عليك.. اتق الله فى يابنى».
فسأل جميل بك: «وماذا كان يعمل كل هذه السنين الطويلة»؟ - أوه كل شىء.. قال لى أنه لم يعش لنفسه ساعة واحدة أيام كان يشتغل بالأدب، وأن كل ما كان يرى نفسه تشتهيه كان يرى أنه محروم منه. وكان مما يثقل عليه جدا أنه لا يرى نفسه يفعل إلا ما يكره فهو لا يحب المجالس التى يكثر فيها الناس ولا يرتاح إلى أحاديثها ولا يغتبط بالزوار ويحب أن يشعر أن بيته حصن منيع لا يقتحم، ويود ألا يجلس إلا الذين يصطفيهم من الإخوان ويأنس بهم ويطمئن إليهم، ولكنه كان يجد - لسبب خارج عن إرادته بل ضد إرادته - أنه يعيش كما يعيش الناس، ويفعل ما يستثقل، ويحرم ما يحب، وقد كبر فى ظنه أنه سيظل حياته هكذا. ولم يستطع أن يروض نفسه على السكون إلى هذه الحياة أو أن يوطنها على احتمال هذا التقيد الذى لا يعرف ماذا يفرضه عليه، وشق عليه أن يظل هكذا.. يعرف أنه حر ولا ينعم مع ذلك بحريته، فكره هذه الحرية الظاهرية، ومل السخط على نفسه.. وود لو أنه مقيد حقيقة بإرادة غيره ليتسنى له على الأقل أن ينحى باللائمة على هذه الإرادة الخارجية ويجعلها غرضا لذمه وطعنه. ولهذا فر من مصر والتحق بشركة أجنبية للملاحة، وركب على بواخرها البحار.. وأقام فى الموانئ مندوبا لها، ثم ترك ذلك وعمل وكيلا تجاريا يجوب المدن ويذرع الأرض داعيا مرغبا، ثم انقلب مدرسا للغة العربية فى بلاد الأفغان حتى أقعدته الشيخوخة ولم تقعده فى الحقيقة، ولكن الناس كانوا يرون أن سنه علت فهم يزهدون فيه من أجل ذلك ويؤثرون من هم أدنى منه سنا، وكان قد جمع مالا فى رحلاته الكثيرة فصار ينفق من رأس ماله حتى قارب النفاد فعاد إلى مصر فدخلها ومعه نحو تسعين جنيها. قال لى - وهو يضحك: إنه حدث نفسه أنه ينبغى أن يموت بعد أن تنفد، فما له رزق سواها. ولكنه كان يخرج ويتردد على المكاتب التجارية، فأنس به أصحابها وأدركوا أنه عالم وأن فى وسعهم أن يستغلوه، فكان يضبط لهم الكتب القديمة التى يعيدون طبعها، وساعده ذلك على إطالة عمره، فقد أغناه عن الإنفاق من رأس ماله أو ما بقى منه. ومعنى ذلك عنده أن عمره طال لأنه يحسب عمره بما لديه من المال، فعلى حسب كثرته أو قلته يكون ما بقى له فى الدنيا من السنين.. فهل رأيت أعجب من هذا؟
فأطرق جميل بك شيئا، ثم رفع رأسه وقال: «لا شك أن الأمر عجيب ولكن ابنه ... ألم يأخذه بعد أن اهتدى إليه»؟
فقال سعيد: «أوه.. إن الرجل شاذ كما تعرف وقد أبى كل الإباء أن يذهب إلى بيت ابنه، لأن هذا خليق أن يحدث فى رأيه اضطرابا لا داعى له فى حياة ابنه. وقد أطال النظر إلى البذلة الأنيقة التى يلبسها ابنه، ثم ألقى نظرة على الجلباب البسيطة الذى يرتديه هو وأشار بيده المعروقة إلى الثوبين، وقال: «دعنى لشأنى، فإنه غير شأنك» ولم يزد بعد على الابتسام كلما ألح عليه ابنه فى القيام معه».
فقال جميل بك: «والآن ألا نستطيع أن نصنع شيئا لهذا الرجل الذى كشفنا عنه؟ إن رجال الآثار يملأون الدنيا ضوضاء كلما وقعوا على حجر قديم، أفلا ينبغى أن ننبه الناس إلى حقيقة هذا الرجل الذى لا يزال حيا وإن كان محسوبا فى أهل القرون الخالية»؟
فقال سعيد: «بالطبع نستطيع.. يمكن مثلا أن نقيم احتفالا كبيرا فى أكبر الفنادق ندعو إليه رجال الأدب والعلم والصحافة وطائفة من كبار الرجال ونقدم إليهم صاحبنا.. غرابة الموضوع نفسه كفيلة وحدها بنجاح الحفل».
فهز جميل بك رأسه، وقال: «لا شك.. ولكن صاحبنا لا يبالى هذا ولا فائدة له منه على كل حال، وأنا أخشى إذا دعونا إلى الاكتتاب أن لا نفوز بشىء يستحق الذكر.. فنكون قد أهنا الرجل بلا داع.. ثم من يدرى.. فقد يأبى هذا وذاك..».
فقال سعيد، وهو ينهض: «أقول لك.. دع هذا لى. والله الموفق».
لم يكن الأستاذ عبد القادر التميمى يبرح بيته، وكان يجلس طول النهار على سريره الضيق تحت النافذة ويطل منها ولا يكاد يحول عينه عنها. ولم يكن يرى شيئا فى الحقيقة الا أشكال المبانى القريبة، وذاك لضعف بصره.. ولكنه لم يكن ينظر ليرى شيئا، ولا كان يعنى بأن يرى أو أن تأخذ عينه المناظر، وإنما كان يحدق كالذاهل. وكانت أسارير وجهه المتجعد تنبسط أو تعمق الأخاديد التى حفرها الزمن، فيخيل إلى الناظر إليه أن هذا وقع ما يشاهده. ولكن الحقيقة كانت خلاف ذلك وعلى نقيضه، فما كان يبصر شيئا وإنما كان يدير عينه فى قلبه أى فى ماضيه، فيبدو عليه السرور أو الألم أو غير ذلك، كما يبدو على وجه من يشاهد قصة معروضة فى دار السينما. وكان سعيد يزوره كل يوم مرة - وأحيانا مرتين - فى اليوم ويصغى إليه - أكثر الوقت، وهو يهضب ويسح بذكرياته التى لا آخر لها وقال له مرة: «ما رأيك يا أستاذ.. أن خبر عودتك قد شاع وذاع بين الأدباء ورجال الصحف وكلهم متلهف على رؤيتك».
فقال بإيجاز: «فليتلهفوا». فقال سعيد: «ولكنهم لابد أن يصلوا إليك فى النهاية.. كما وصلت أنا.. ولا سبيل إلى صدهم». فتجهم الرجل وقال: «ولكن يجب أن يمنعوا.. إن المكان لا يليق.. ما العمل.. أشر..» قال: «اسمع منى وأطعنى.. خير ما يمكن أن نصنع هو أن يروك كلهم دفعة واحدة». قال: «ولكن كيف يتسنى ذلك؟ هذا مستحيل». قال: «كلا.. الضرورة تفتق الحيلة.. وقد رأى المعجبون بك أن خير ما يصنع هو أن يقيموا حفلة يدعون إليها الأدباء والعلماء ورجال الصحف ورجال الدولة أيضا.. فنفرغ من الأمر كله فى ساعة». قال: «ساعة؟ يا حفيظ». قال: «هذا أهون من أن تظل كل يوم ساعة معرضا لحضورهم إلى هنا وإزعاجك.. فكر..». قال: «صدقت.. ولكن حفلة؟ حفلة. إن هذا صعب».
Неизвестная страница