والفرنسي في مصر متكلف ليس صريحا، وهو لا يرسل نفسه على سجيتها، فيه غطرسة ولكنه يخفيها إلى حد ما، وفيه تملق ولكنه يجمله بعض الشيء، هو صاحب منفعة قبل أي شيء آخر، ولكنه يجتهد في أن يخفي تأثير هذه المنفعة فيما بينك وبينه من صلة، وهو يراقب نفسه إذا تحدث إليك، فلا يقول لك إلا ما تريد أن يقول، لا ما ينبغي أن يقول، فإذا وصلت إلى فرنسا، واستطعت أن تتصل بالفرنسيين الذين لا يرجونك ولا يخافونك، ولا يقدرون أن يزوروا مصر أو أن تكون لهم فيها منفعة ما، فقد وصلت إلى الفرنسي حقا، واستطعت أن تتحدث إليه، وأن ترى نفسه كما هي، دون أن يحول بينك وبينها غشاء ضعيف أو كثيف. هذا الفرنسي صريح، مسرف أحيانا في الصراحة، محب للغلو في كل شيء حين يتكلم لا حين يعمل، وهو كلف بالتناقض، وإعلان الأحكام المضحكة الغريبة، التي تفجؤك وتدهشك. ومن غريب الأمر أن الأمد بعيد جدا بين الفرنسي حين يتكلم، والفرنسي حين يعمل، فهو في حياته العملية معتدل، وهو أقرب إلى المحافظة منه إلى التطرف حتى حين يكون من المتطرفين في المذهب السياسي، ولكنه حين يتكلم أشد الناس تطرفا، وأعظمهم إسرافا في نبذ القديم، وأحدهم سخطا على حياته اليومية، وعلى عصره الذي يعيش فيه. إذا سمعت الفرنسي يتحدث عن شئونه السياسية فستراه ساخطا أشد السخط على الحكومة والبرلمان، مغضبا أشد الغضب؛ لأن شئون الدولة تمشي على غير نظام، ولأن فرنسا تفقد مركزها الممتاز الذي كان لها بين أمم العالم، هو ساخط على الجمهورية، وهو غير راغب في عودة النظام الإمبراطوري أو الملكي، وهو كاره للاشتراكية، مشفق من الشيوعية، فإذا سألته عما يريد قال لك كلاما كثيرا لا تفهم منه ما يريد، ولكنك تفهم منه أنه ساخط غير مطمئن. هو ساخط فيما يقول، ولكنه في حياته اليومية راض مطمئن، يؤدي عمله على وجهه في تأفف متصل، ويؤدي الضرائب في سخط على الحكومة والخزانة.
وسخطه السياسي ليس أعظم من سخطه الأدبي أو الفني؛ فلن ترى الفرنسي راضيا عن الحياة الأدبية في عصره، ولن تراه راضيا عن الحياة الفنية، ولن تراه راضيا عن شيء، ولكنه على ذلك كله يقرأ ويلتهم الكتب التهاما، ويزور معارض الفن، ويشهد التمثيل، ويسمع الموسيقى، ويجد في هذا كله لذة، ولكنه يجد مع ذلك وسيلة إلى السخط والتأفف والاشمئزاز. هو قلق دائما، طامح دائما إلى مثل أعلى، يجهله ولا يستطيع أن يحدده، ولكنه يطلبه مع ذلك ويلح في طلبه، يطلب دون أن يتخلص من حياته اليومية وحاله الحاضر إلا في مشقة وعسر شديد.
لا أعرف أحدا يسخط على الحياة الفرنسية من جميع نواحيها كالفرنسيين، ولا أعرف أحدا يحب الحياة الفرنسية من جميع نواحيها كالفرنسيين. هم أبغض الناس للحرب، وهم أسرع الناس إليها حين يدعون، هم أبغض الناس للجمهورية، وهم أحرص الناس عليها حين تتعرض للخطر، شعب غريب حقا لا يفهمه الأجنبي إلا بعد طول الدرس والاختبار، وبعد أن يعود نفسه أن الطبيعة الفرنسية الحقيقية تختفي أمام طائفة كثيرة من أستار التناقض والاضطراب.
ما أبعد الأمد بين هذا الفرنسي الذي تتحدث إليه في فرنسا، فإذا هو في الوقت نفسه يسخر من كل شيء، ويحرص على كل شيء، ويناقشك في كل شيء، ويلهيه اللفظ عن كل شيء، حتى يفتن بصوته وعباراته، ويتكلم ليسمع نفسه وهو يتكلم لا ليؤدي إليك شيئا في نفسه يريد أن يؤديه ويذود عنه، وبين هذا الفرنسي الذي تراه في مصر يتحدث إليك في عناية وحرص، قد وزن ألفاظه وزنا وقدرها تقديرا، وصنع له طائفة من الآراء والمعاني والخواطر قدر أنها هي التي تعجبك وترضيك، فهو يعرضها عليك في مهارة ودراية ومكر وإسراف في المكر، وهو في لفظه مقتصد معتدل لا يكاد يتكلم إلا بمقدار؛ لأنه يخشى أن يرسل نفسه على سجيتها.
عسير عليك أن تحب الفرنسيين في مصر، وعسير عليك أن تكره الفرنسيين في فرنسا. وقد سمعت من غير واحد من أصحابنا الذين يعرفون بلاد الإنجليز أن ثقل الإنجليزي في البلاد الأجنبية لا يعدله إلا ظرف الإنجليز في بريطانيا العظمى.
ومن يدري، لعل الأمر كذلك بالقياس إلى الأجانب جميعا؟
أما أنا فلم أكن قد عرفت الفرنسيين حين زرت فرنسا لأول مرة، فلما خالطتهم في بلادهم - وقد أتيحت لي هذه المخالطة كأحسن ما تتاح لأجنبي - أحببتهم حبا لا حد له، ثم عرفتهم بعد ذلك في مصر فلم أكد أصدق أن هؤلاء الفرنسيين هم مثل أولئك الذين عرفتهم وراء البحر، ولذلك تعودت ألا أسمع للفرنسيين في مصر إلا بنصف أذني ، فإذا كنت في بلادهم فأنا أسمع لهم بنفسي كلها.
13
وفي باريس دور تدخلها فلا تكاد تخرج منها إلا بشق النفس كأنها تمسكك وتحول بينك وبين الخروج، وهي تمسكك بالفعل فأنت لا تكاد تخطو فيها خطوة حتى تقف ناظرا محدقا ومتأملا مفكرا، ثم تنتزع نفسك انتزاعا من هذا المكان الذي وقفت فيه، فإذا على القرب منه مكان آخر يقفك ويقيدك، ويضطرك إلى النظر والتحديق، والتأمل والتفكير.
وكذلك أنت مضطر إلى أن تقضي اليوم كله أو أكثره في هذه الدور، تتنقل فيها من مكان إلى مكان، ولا تبرحه حتى تضطرك حاجتك أو المساء إلى الخروج.
Неизвестная страница