ولم يزل يفيض على نفوسهم من نفسه تلك الروح الوطنية العالية، ويملي عليهم أمثال هذه الآيات الذهبية الشريفة، حتى صفت ضمائرهم من أدران الذل والمهانة، وأدركوا من معنى الحياة ما لم يكن يدركه آباؤهم من قبل، فأصبحوا كما تراهم اليوم حماة الوطن وذادته، يبذلون في سبيله من ذات أيديهم وذات نفوسهم ما لا يبذل مثله إلا الأمم الراقية الشريفة في سبيل الذود عن مجدها، والدفاع عن حريتها واستقلالها، ويتقدمون إلى الموت زرافات ووحدانا، فرحين متهللين كأنهم ذاهبون إلى مراقص «فيدين» وملاعبها؛ لأنهم يعلمون أن قطرات الدماء التي يبذلونها في سبيل حريتهم واستقلالهم إنما هي المداد الأحمر الذي تسجل لهم به في صفحات تاريخهم آيات المجد والفخار، وأن الأشلاء التي ينثرونها في تربة وطنهم ثم يسقونها من دمائهم إنما هي البذور الطيبة التي تنبت لبلادهم المستقبل الحر الشريف.
من منا يجهل أنه هو الذي استطاع وحده من بين أبناء البلقان جميعا أن يقف أمام ملكه وقفة الأسد الهصور، ويصيح في وجهه قائلا له: «حتى متى أيها الملك الضعيف المهين تبيع وطنك وأبناءه لأعدائك وأعدائه بيع السلع المعروضة في حوانيت التجار بأبخس الأثمان وأدناها؟ وإلام تضع هذه السلاسل والأغلال في أعناق أبناء أمتك لتقودهم بها إلى حيث يمرغون جباههم الشريفة تحت مواطئ أقدام ذلك العدو المغتصب صاغرين ضارعين، ثم تزعم بعد ذلك أنك ملك عظيم جالس على عرش شريف؟ ولو حققت أمرك لعلمت أنك نخاس على عرش شريف، ولو حققت أمرك لعلمت أنك نخاس دنيء يبيع الرقيق في سوق النخاسة، بل أدنى من نخاس؛ لأن النخاس لا يتجر في أبناء أمته، ولا في أفراد أسرته!» فاهتز الملك لكلمته هذه اهتزاز القصبة الجوفاء بين مهاب الرياح، وطأطأ لها رأسه إجلالا وإعظاما، ولم يلبث أن عزم عزمته الشريفة التي ترونها اليوم، والتي أنقذت الوطن من العار، ورفعته إلى ذروة المجد والفخار.»
وهنا ضج القوم جميعا ضجة السرور والاستحسان وصاحوا: أحسنت يا أورش، أحسنت إحسانا عظيما، إلا نفرا قليلا من أشياع القائد وصنائعه، فإنهم امتعضوا لهذه الكلمة وغصوا بها، وقام أحدهم - واسمه لازار، وكان الحارس الخاص لقصر القائد وأمينه، وموضع ثقته وثقة زوجته الأميرة بازيليد - وطلب الإذن في الكلام، فأذنوا له، فقال: «إني لا أريد أن أعترض على صديقي أورش في كلمته التي قالها في فضل أسقفنا العظيم وأثره الجليل في خدمة الدين والوطن، ولكن الذي أراه وأستصوبه أن لرجال الدين شئونا خاصة بهم لا يجمل بكرامتهم أن يتعدوها إلى غيرها من أعمال الحياة، وإني أضن بأسقفنا العظيم أن تشغله مشاغل الملك وملاهيه عن شئون الدين التي تصبو لها نفسه طول حياته. والرأي الذي أراه أن يعهد الملك إلى القائد ميشيل برانكومير ليقود الأمة جميعها بتلك السياسة الحكيمة الرشيدة التي قاد بها الجيش، ورفعه إلى مناط السماك الأعلى.» فاعترضه جندي كان جالسا على مقربة منه وقال له: «ولم لا تضن بالقائد ميشيل أن تشغله مشاغل الملك وملاهيه عما هو بسبيله من قيادة الجيش وتدبير شئونه؟» فأجاب: «إن قيادة الجيش وزعامة الملك أمران متشابهان؛ لأنهما يتعلقان بشئون الحياة وأعمالها، أما الشئون الدينية فلا علاقة لها بالشئون الدنيوية بحال من الأحوال؛ فدعوا الكاهن مستريحا في معبده، مستغرقا في صلواته وعباداته، واختاروا لملككم رجل الأمة وبطلها وحامي ذمارها وحماها الأمير برانكومير.» فعلت أصوات الصاخبين والصائحين، والمستحسنين والمستهجنين، وذهب كل في صيحته المذهب الذي يراه ويتشيع له.
وإنهم لكذلك إذا بصوت صارخ في وسط هذه الضوضاء يقول: «استمعوا مني أيها القوم كلمة واحدة هي فصل الخطاب في قضيتكم هذه، ولا أطلب إليكم أن تستمعوا مني سواها.» فالتفت الجميع فإذا الضابط «ألبير» - وهو جندي شيخ عرف القائد برانكومير صغيرا وخدمه كبيرا، وعاش معه في منزله في عهد زوجته الأولى كأنه أحد أفراد أسرته، ولم يفارقه إلا منذ عامين اثنين؛ أي بعد وفاة زوجته بأيام قلائل - فأنصتوا إليه فإذا هو يقول: «أنتم تعلمون جميعا صلتي بالقائد برانكومير ومكانتي عنده، وإني أعرف من شئونه الخاصة والعامة ما لا يعرفه أحد غيري، ولقد عرفت فيما عرفت من خلائقه وسجاياه بعد تجربة عشرين عاما قضيتها في خدمته، أنه أبعد الناس جميعا عن مطامع الحياة ومظاهرها، وأرغبهم عن سفاسف الأمور ودناياها، وأنه جندي صميم معتز بجنديته وشظفها وخشونة العيش فيها، لا يؤثر عليها أي مظهر من مظاهر الحياة مهما علا شأنه وغلت قيمته؛ فمن ظن منكم أنه يرضيه ويجامله بترشيحه لمنصب الملك بين أشراف البلقان وسادته؛ فهو غير القائد برانكومير.» فهدأت الأصوات وسكنت الضوضاء عند سماع هذه الكلمة الهادئة الرزينة التي ينطق بها جندي شريف صادق ، وكادت تكون فصل الخطاب في القضية، لولا أن «أورش» - وهو ذلك الجندي المتشيع للأسقف والداعي له - قد نهض من مكانه مرة أخرى، ونظر إلى الجندي «ألبير» مبتسما ابتسامة الهزء والسخرية، وقال له: «نعم يا سيدي، إنك صادق فيما تقول، ولم تزد حرفا على ما تعرف ولم تنقص، ولكن ائذن لي أن أقول لك: إنك إنما تحدث في كلامك عن الماضي القديم الذي حضرته وشاهدته، أما الحاضر فلا تعرف منه شيئا، فإن أذنت لي حدثتك عنه وقلت لك: إن الأمير برانكومير اليوم غيره بالأمس، وإن تلك النفس العالية المترفعة التي كنت تعرف بالأمس مكانها من بين جنبيه قد استحالت اليوم إلى نفس تواقة متطلعة، تصبو إلى المعالي وتفتتن بالعروش، وإنه هو الذي يدعو بنفسه إلى نفسه، ويرسل الدعاة في كل مكان لتأييده ومساعدته على نيل الملك.» فاستطير ألبير غضبا وقال: «أتريد أن تقول: إن أخلاق قائدنا قد تغيرت، وإنه قد أصبح رجلا صغير النفس متبذلا؟» قال: «لا، ما إلى هذا ذهبت، ولكني أريد أن أقول: إنه قد أصبح منقادا في شئون حياته لرأي غيره لا لرأي نفسه، وربما لو ترك وشأنه لكانت له في حياته خطة غير هذه الخطة التي ينتهجها اليوم.»
فانتفض القوم واضطربوا ونظر بعضهم في وجوه بعض، ومشت الهمسات بين الأفواه والآذان، وسمع الخطيب اسم قسطنطين يتردد مرارا في أفواه الهامسين، فصاح في القوم: «أنتم مخطئون جميعا فيما تذهبون إليه، فإن ابن قائدنا وزهرة شبيبتنا وضابط فرقتنا أعلى همة مما تظنون.» فصرخ لازار: «قل من هو الشخص الذي تريد؟» فجلس أورش ولم يقل شيئا، إلا أنه همس في أذن جندي كان بجانبه: «الزوجة الجديدة!» فسرت هذه الكلمة بين الجموع سريان الكهرباء في أسلاكها حتى بلغت مسمع الموسيقار بانكو، فبرقت لها عيناه بريق الفرح والسرور؛ لأنه لم يكن موسيقارا بوهيميا كما زعم، ولم يكن اسمه بانكو كما يسمونه، بل هو الضابط المشهور إبراهيم بك، أحد أركان حرب القائد التركي العظيم أرطغرل باشا، وقد وجد في هذه الكلمة التي سمعها ما كان يريد أن يكون، وعثر بالثلمة التي ينحدر منها إلى أغراضه ومآربه.
وما أوى القوم إلى مضاجعهم، وأخذ النوم بمعاقد أجفانهم حتى دب ذلك الجاسوس المتنكر على يديه حتى بلغ مضجع الجندي لازار، حارس قصر القائد وموضع ثقته وأكبر أشياع زوجته وأنصارها، فاضطجع بجانبه، وظل يهمس في أذنه ساعة طويلة كان يتردد فيها اسم الأميرة بازيليد زوجة القائد الجديدة، حتى تم لهما الاتفاق على ما يريدان، ثم أسلما عيونهما إلى الكرى فناما.
قسطنطين
توفيت زوجة الأمير برانكومير منذ عامين، وكانت امرأة من النساء الصالحات القانتات ذوات النفوس العالية والهمم الكبرى، فورث ابنها قسطنطين عنها هذه الأخلاق الكريمة، كما ورث عن أبيه صفات الشجاعة والعزيمة والصبر واحتمال المكاره في سبيل خدمة الوطن والأمة، فكان خير ابن لخير أب وأم، وكان يد أبيه اليمنى ودرعه الواقية الأمينة في جميع وقائعه ومشاهده، حتى ذاع صيته في جميع أنحاء المملكة، وأحبه الشعب والجند حبا كاد يرفعه إلى ما فوق منزلة أبيه، لولا حرمة الأبوة وجلال الشيخوخة ومكان التاريخ، فلما ماتت أمه تزوج أبوه من بعدها فتاة يونانية اسمها بازيليد، يقال: إنها من سلالة قياصرة بيزنطية «القسطنطينية».
وهي فتاة جميلة ساحرة تستهوي القلوب وتختلب الألباب، ذات نظرات غريبة لامعة يقضي المتفرس فيها حين يراها أنها نظرات مريبة ألفت الاختلاب والافتتان من عهد بعيد، فنزلت من قلب القائد الشيخ منزلة لم ينزلها منه أحد من قبلها ولا من بعدها، حتى زوجته الصالحة وولده النجيب، فأصبح مستهاما بها، مستسلما إليها، لا يصدع إلا بأمرها، ولا يصدر إلا عن رأيها، ولا يرى حلو العيش وجماله إلا بجانبها، ولا يستروح رائحة السعادة والهناء إلا إذا هبت عليه من ناحيتها.
وكانت امرأة طموحا متطلعة لا يعنيها من شئون حياتها إلا مظاهر السؤدد والعظمة، ولا يغلب على مشاعرها وعواطفها إلا ذكرى تاريخ آبائها وأجدادها، ومصارع قومها في «بيزنطية» بيد الأتراك الفاتحين، وكانت لا تزال تتحدث في مجالسها العامة والخاصة بنبوءة قديمة تنبأ لها بها بعض المتنبئين، ومجملها أن كاهنا عرافا دخل منزل أبيها وهي طفلة لعوب لا تزال تحوم حول مهدها، فنظر إليها طويلا ثم قال لأمها: إن ابنتك هذه ستكون ملكة عظيمة الشأن في مستقبل أيامها. وربما كان اهتمامها بهذه النبوءة واحتفالها بها وتصديقها إياها هو السبب في قبولها الزواج من شيخ هرم مدبر قلما يعنى بمثله مثلها، على أمل أن تحقق لها الأيام على يديه آمالها وأمانيها.
Неизвестная страница