وكان يتكلم ودموعه تنهمر على خديه دائبة ما تهدأ ولا ترفأ، وأبوه يضطرب بين يديه اضطراب الدوحة الماثلة في مهاب الرياح الأربع، ويزفر زفرات محرقة ملتهبة، وقد قامت في نفسه تلك المعركة الهائلة التي تقوم في كل نفس شريفة بين الواجب والشهوة، يتمثل له الأول في وجه قسطنطين العبوس المكتئب، فيرتعد ويضطرب، وتتراءى له الثانية في وجه بازيليد الضاحك المشرق، فيخور ويتضعضع، لا يستطيع أن يعرض عن نداء وطنه؛ لأنه نداء يصل إلى أعماق قلبه، ويبلغ صميمه، ولا أن يفلت من سلطان شهوته؛ لأنه سلطان قاهر جبار لا يفلت منه قوي ولا ضعيف، فوضع إحدى يديه على عينيه، ومد الأخرى أمامه كأنما يطارد أشباحا مخيفة هائلة تتقدم نحوه، وظل يصيح بأعلى صوته: اصمت يا قسطنطين! اصمت يا ولدي! لا أستطيع أن أحتمل أكثر مما احتملت، آه من القدر وأحكامه، والدهر وتصرفاته، وويلي من الشقاء المكتوب، والبلاء الحتم، من لي بيد قوية تنقذني من هذا الشقاء المحيط بي، فقد أصبحت وما على وجه الأرض أحد أجدر بالرحمة والشفقة مني، العنوني جميعا يا أولادي وأبناء وطني، وانتقموا مني بأفظع أنواع الانتقام؛ فإنني خائن لئيم لا أستحق رحمتكم ولا مغفرتكم، ثم صمت صمتا عميقا لا ينبس فيه ولا يتحرك، وظل على ذلك هنيهة ثم نظر أمامه نظرة الدهشة والذهول، فخيل إليه أنه يرى شبحا يتقدم نحوه، فمد يده إليه وأخذ يناجيه ويقول: بازيليد، ألا تستطيعين أن تحليني من ذلك القسم الذي أقسمته لك، فقد ضعف كاهلي عن احتماله واحتمال أثقاله، لا أريد ملكا ولا تاجا ولا صولجانا، بل لا أريد أن أبقى على ظهر الأرض يوما واحدا؛ الموت! من لي به في هذه الساعة فأنجو من همومي وآلامي؟
فتهلل وجه قسطنطين غبطة وسرورا، ووقع في نفسه أن الرجل قد تلوم واستخذى، وبدأ يستفظع ذنبه ويستهوله، فترامى على عنقه واحتضنه إليه وظل يقول بنغمة الفارح المغتبط: أحمدك اللهم قد أنقذت لي أبي! فحنا أبوه عليه وظلا متعانقين ساعة لا يسمع فيها إلا تردد أنفاسهما، ونشيج بكائهما، ثم افترقا بغتة واشرأبا بأعناقهما حينما سمعا في لحظة واحدة حسيس جيش العدو وهو مقبل من ناحية الشمال، وكان ما سمعاه في هذه المرة حقيقة لا وهما، فارتجلا في وقت واحد حركتين مختلفتين؛ إذ وثب قسطنطين إلى الرابية وثبة عظمى ليضرم نارها، ووثب أبوه وثبة أعظم منها فاعترض سبيله وصرخ في وجهه: قف مكانك، لا تتقدم خطوة واحدة! فأصاب قسطنطين مثل الجنون وقال له: تنح عن طريقي، أيها المجرم الأثيم؛ فقد فرغ صبري، قال: إنك لا تستطيع أن تمر إلا على جثتي. فارتعد قسطنطين وبرقت عيناه وذهبت به الأفكار مذاهبها، وقال له: أي كلمة هائلة نطقت بها أيها الرجل الشقي؟! وأي قضاء قضيت به على نفسك؟! تنح عن طريقي؛ فإن نفسي تحدثني بأفظع ما تحدث به نفس صاحبها في هذا العالم، قال: إنك لا تستطيع أن تقتل أباك، قال: أستطيع أن أفعل كل شيء في سبيل وطني، إنني وقفت سيفي طول حياتي على خدمتك وحمايتك والذود عنك أيام كنت لوطنك وقومك، أما الآن فإني أغمد ذلك السيف نفسه في صدرك طيب النفس مثلوج الفؤاد؛ لأني أعتقد أني لا أغمده في صدر أبي، بل في صدر خائن وطني، قال: لا تنس أن لي يدا أقوى من يدك، وسيفا أمضى من سيفك، قال: إني لا أجهل ذلك، ولكنك تقاتل في سبيل الدناءة والخيانة، وأقاتل في سبيل الواجب والشرف، والله مطلع علينا من علياء سمائه، وهو الحكم العدل بيننا. فجرد برانكومير سيفه وهجم على ولده هجمة قوية، فجرد الآخر سيفه وتلقى ضرباته بأشد وأنكى منها، وما هي إلا جولة أو جولتان حتى حكم القاضي العادل حكمه؛ فسقط الظالم ونجا المظلوم!
فنظر قسطنطين إلى جثة أبيه الساقطة تحت قدميه نظرة جامدة صامتة لا يعلم ما وراءها، ثم أغمد سيفه وصاح بأعلى صوته: رحمتك اللهم؛ فإني لا أستطيع أن أفعل غير ما فعلت. ثم هجم على الرابية فأشعل نارها، فضاءت بها أرض البلقان وسماؤها.
وفي اليوم الثاني نشر الملك ميلوش على الأمة هذا البلاغ:
حاول العدو ليلة أمس تبييت جيوشنا وأخذها على غرة، وكاد يظفر بذلك لولا أن انتبهت الفرقة الأولى من الجيش ونهضت للدفاع بقيادة ضابطها العظيم قسطنطين برانكومير، فأبلت في المعركة بلاء عظيما، ووقفت العدو في مكانه ساعة كاملة، حتى نهضت بقية الفرق لمساعدتها، فدارت معركة هائلة بين الجيشين انتهت بانتصارنا وانهزام العدو إلى مواقعه الأولى، ولكن المصاب العظيم الذي عم الجيش وشمل الأمة بأسرها هو موت قائدنا العظيم «ميشيل برانكومير»؛ فقد وجد في أثناء المعركة قتيلا بضربة سيف في خاصرته بين صخور «تراجان» تحت القوس الروماني، وسيحتفل بتشييع جنازته غدا احتفالا عسكريا جليلا يليق بمقام شهيد الوطن وبطله العظيم!
أما الذي خلفه في قيادة الجيش، فهو ولده الضابط الشجاع منقذ الأمة والوطن «قسطنطين برانكومير».
الضمير
مضى الليل إلا قليلا وقسطنطين ساهر في فراشه لا يغمض له جفن، ولا يطمئن له جنب؛ لأن مصرع أبيه في شعب «تراجان» لا يزال ماثلا أمام عينيه ما يفارقه لحظة واحدة، وكان كأنه يرى الجثة بين يديه تتلوى وتتمرمر وتنظر إليه نظرات حادة ملتهبة، وكأن جرحها الدامي بين أضلاعها لا يزال يتدفق منه الدم، فثار من مكانه هائجا مذعورا، وحاول أن يطرد هذا الخيال عن نظره فلم يستطع، فمد يده إلى ذلك الجرح الموهوم الماثل أمامه يريد أن يعترض سبيل الدم المتدفق منه فغلبه على أمره، وازداد في تدفقه وانبثاقه حتى ملأ أرض الغرفة جميعها، وصبغ بلونه الأحمر القاني جميع ما فيها من فرش وأثاث وآنية وثياب، فاشتد فزعه وارتياعه، ولم يستطع أن يحتمل أكثر مما احتمل، فوقع مغشيا عليه.
وظل على ذلك ساعة حتى انفثأت حرارة دمه، فاستفاق من غشيته وجلس إلى نفسه يناجيها ويقول: إنني على ثقة من نفسي، لم أفعل إلا ما يجب على كل رجل شريف أن يفعله، فما هذا الخوف الذي يساورني؟ وما هذه الصور المخيفة التي تتراءى لي في يقظتي وأحلامي؟ كان يجب علي أن أضرب؛ لأنه ما من ذلك بد ففعلت، فلم أرتاب في عملي! ولم أرتعد ارتعاد المجرمين الآثمين؟ إن الرجل لا يخاف إلا ذنبه، وأنا لم أذنب إلى أحد؛ لأن الرجل الذي قتلته كان يريد أن يقتل أمة بأسرها فأنقذتها بقتله، بل أنقذت عشرين أمة من أمم المسيح في أوروبا؛ ألا يجوز للإنسان أن يقتل الأفعى دفعا لأذاها، والوحش كسرا لشرته، واللص اتقاء لضرره؟! إنني لم أفعل غير ذلك، فما لي أرى وجه السماء أحمر قانئا ليله ونهاره، وما لي أجد مذاق الدم في كل كأس أشربها من ماء أو خمر، وما لي لا أستطيع النظر إلى يدي خوفا ورعبا! إنني لم أقتل أبي، ولكني أحييته؛ لأنه إن كان يحيا اليوم في قلوب الناس حياة العظمة والمجد، وكان تمثاله إلها معبودا يطيف به الشعب، ويقبل أركانه، ويتبرك بلمسه واستلامه، وكان اسمه طغراء الأسماء الشريفة المسجلة في التاريخ، فإنما ذلك بفضل الضربة التي ضربته إياها، ولولا ذلك لعاش بقية أيام حياته عيش الأدنياء الساقطين، أو مات موت الخونة المجرمين.
وهنا انتفض واصفر وارفض جبينه عرقا، وقال بصوت ضعيف مختنق: نعم، إن ذلك كله صحيح لا ريب فيه، ولكنني قتلت أبي!
Неизвестная страница