جثم الليل في مجثمه ونشر أجنحته السوداء على الكون بأجمعه، فهجع تحت ظلالها الأحياء جميعا من بشر وحيوان، ولم يبق ساهرا وسط هذا السكون المخيم إلا عينا القائد برانكومير في شعب «تراجان» يديرهما ها هنا وها هنا، فينظر بهما تارة أمامه وأخرى وراءه؛ ليرى هل يرصده أحد أو يتأثر حركاته وأعماله، ويقلبهما أحيانا في صفحة السماء فيرى عيون النجوم محدقة فيه، فيخيل إليه أنها عيون الله ناظرة إليه نظرات الوعيد والتهديد، وكأن صائحا يصيح به من جوانب الملأ الأعلى: اصنع ما تشاء أيها الرجل الخائن، واكتم عملك عن عيون الناس جميعا، فإني ناظر إليك ومسجل عليك هذه الجناية العظمى التي تجنيها على وطنك وقومك!
فيتضاءل ويتصاغر ويمر بخاطره قول أمه له في عهد طفولته فيما كانت تمليه عليه من آداب الحكماء وأقوالهم: «إن كواكب السماء ونجومها تشهد بين يدي الله على جميع جرائم البشر التي ليس لها شهود!» ثم لا يلبث أن يسري عن نفسه ويذهب به خياله إلى الملك وعرشه، وتاجه وصولجانه، وعزه ومجده، ثم يلقي نظرة عامة على الجبال المحيطة به، والسهول المنبسطة من حوله، والأنهار المائجة بأشعة النجوم ولألائها، فيقول: غدا تصبح هذه الجزيرة كلها جزيرتي، وأهلها خدمي وحشمي، يأتمرون بأمري، ويذعنون لقوتي وسلطاني، وغدا يتلألأ التاج على جبين بازيليد، فتصبح أسعد نساء العالم جمعاء، وأصبح بسعادتها أسعد رجاله، ثم يخيل إليه كأنه يرى بازيليد ماثلة بين يديه تنظر إليه نظراتها الساحرة الفاتنة، فيمد ذراعيه لاستقبالها ويناجيها قائلا: إنني لا أزال على العهد الذي عاهدتك عليه مذ فارقتك حتى الساعة، لم أندم ولم أتردد، ولا مر بخاطري أن أحفل بشيء في العالم سوى أن أنيلك البغية التي تبتغينها.
إن القبلة التي وضعتها على شفتي منذ ساعة قد أثلجت صدري، وسكنت جميع مخاوفي ووساوسي، فأنا أقدم على الجريمة إقدام الهادئ المطمئن، لا أشعر بثقلها، ولا أفكر في نتائجها، بل لا أشعر أنها جريمة يخفق لها قلبي خفقة الأسف والندم.
لقد أقسمت لك على الوفاء بالعهد، ولا بد لي من أن أبر بقسمي، ولو كنت أقسمت لك على حرمان نفسي منك - وأنت الحياة التي لا حياة لي بدونها - لاستحييتك أن أحنث في قسمي، أو أن أخيس بعهدي.
أقسمت لك أن أخون وطني، وهأنذا أخونه كما أردت راضيا مستسلما لا أندبه ولا أرثي له، فرضاك هو الوطن كله، بل هو الدنيا بأجمعها، فليذهب الوطن كله، وليفن العالم بأسره، فأنت لي كل شيء فيهما.
وكان يحدث نفسه بهذا الحديث وهو جالس على رابية مرتفعة على شعب «تراجان» تحت القوس الروماني بجانب هضبة عالية من الحطب أعدت للإحراق إنذارا للجيش بالعدو عند زحفه، وكانت الهضبات المحيطة بتلك الرابية أو المبعثرة من حولها سوداء قاتمة تتراءى في ظلمة الليل ووحشته في صور وحوش مخيفة هائلة فاغرة أفواهها، أو مقعية على أذنابها، أو متوثبة للهجوم، فلا يقع نظره عليها حتى يطير قلبه شعاعا، فيسرع إلى الاغتماض فلا يفارقه خيالها إلا بعد حين.
وما كان الرجل جبانا ولا رعديدا، فهو بطل البلقان وحاميه وسيد من أنجبت به ميادين قتاله وساحات نزاله، ولكنها الجريمة تنتزع قلب المجرم من بين جنبيه، وتغشي على عينيه البصيرتين فيصبح بلا قلب وبلا نظر، يرى ما لا يراه الناس، ويخشى ما لا يخشونه، فهو لا يخاف الوحوش والهوام والجن والشياطين والصخور والأحجار، بل يخاف جرائمه وآثامه!
وإنه لكذلك إذ خيل إليه أن إحداها تتحرك من مكانها وتتحلحل تحلحل الليث المتوثب، فاستطير قلبه فرقا ورعبا، وحاول أن يتهم نظره ويستريب به فلم يستطع؛ لأنه ما لبث أن رأى في ذروة تلك الهضبة رأسا يتحرك وينظر إليه بعينين متقدتين، فصرخ صرخة الكلب الجبان الذي ينبح الشبح المقبل نحوه، لا جرأة وإقداما، بل جبنا وفرقا، وقال: من هناك؟ فانحدر الشبح إليه من أعلى الهضبة وقال له بصوت خشن أجش: لا ترتع يا أبت؛ فأنا ولدك قسطنطين. فوثب من مكانه وثبة الملسوع وقال له بصوت متهدج مختنق: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ومن أنبأك أني في هذا المكان؟ قال له: وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا، ومن أنبأك أني في هذا المكان؟ قال له: وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا يا أبت؟ وماذا تريد أن تفعل؟ إنني أسألك عن مثل ما تسألني عنه!
فأسقط في يده وطار طائر عقله، وأحس بالخطر المقبل إلا أنه تجلد واستمسك وقال بلهجة الآمر المسيطر: وما سؤالك عن مثل هذا أيها الفتى الجريء؟ وما شأنك بي وبما أفعل؟ وكيف فارقت حصنك في هذه الساعة من الليل؟ ومن أذنك بذلك؟ قال: لم أستأذن في ذلك أحدا غير واجبي ، إنني أعلم كل شيء يا أبت، وأعلم أنك ما جئت إلى هذا المكان إلا لترتكب أفظع جريمة يرتكبها إنسان في العالم! فصاح برانكومير وهو يتميز غيظا وحنقا: كذبت أيها الغلام الوقح، واجترأت على ما لم يجترئ عليه أحد من قبلك! عد الآن إلى حصنك، ولا تبق بعد صدور أمري إليك لحظة واحدة، فإن جاولتني في ذلك فأنت أعلم بما يكون! إنك لا تفهم شيئا من أسراري وخويصات نفسي، وليس لك أن تسألني عنها؛ لأنك جندي والجندي لا يسأل قائده، بل يأتمر بأمره ولو كان الموت الزؤام! عد إلى مخفرك وتول حراسته بنفسك، ولا تأذن لجفنك بالغمض لحظة واحدة، وسأحدثك غدا في هذا الشأن حديثا طويلا تعلم منه كل شيء.
فتضعضع قسطنطين أمام هذه اللهجة الرزينة الهادئة، وجثا على ركبتيه بين يديه وقال له: عفوا يا أبت، فقد أخطأت في سوء ظني بك، فأنت أشرف من أن تضع نفسك حيث أرادوا أن يضعوك، وما أحسب كلمتك التي قلتها للأميرة منذ حين في تلك الخلوة الرهيبة إلا كلمة مزح ودعابة أردت بها مداراتها وملاينتها، أو الهزء والسخرية بها، حتى إذا فصلت عنك وخلا بك مكانك محوت بظهر يدك عن فمك تلك القبلة الأثيمة التي ختمت بها ذلك العهد الأثيم، ثم قلت لها في نفسك: إنني قد عاهدت الله، أيتها المرأة البلهاء، قبل أن أعاهدك على أن أكون أمينا لوطني، وفيا له، فلا أحفل بعهد غير هذا العهد، ولا بيمين غير تلك اليمين، ثم خفت أن تكون قد استرابت بك أو مرت بخاطرها خلجة شك في أمرك فأخذت للأمر حيطتها من طريق غير طريقك، فجئت بنفسك لتتولى حراسة التخوم وحمايتها، حتى إذا شعرت بسواد الجيش التركي مقبلا أشعلت النيران إنذارا لجيشك بالخطر الداهم، وخيبت آمال أعدائك فيما يكيدون لك ولقومك.
Неизвестная страница