أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي دعمه لتقرير التنمية البشرية العربي لعام 2003 بشأن الحوكمة في العالم العربي، على الرغم من الاعتراضات الأمريكية على أجزاء من النص. أخبرني المعد الرئيسي للتقرير - وهو المفكر المصري نادر فرجاني - في مكتبه بالقاهرة أن التقرير أثار سخط الأنظمة العربية والولايات المتحدة بالقدر نفسه. قال: «أحد الأسباب أنه يوجه نقدا لاذعا للاحتلال الأمريكي للعراق، وأنه أشار إلى أن الطريقة التي شنت بها ما تسمى بالحرب على الإرهاب أسفرت بالقطع عن مزيد من تقييد الحريات في الدول العربية.» وأضاف أنه كان لا بد لهذا التقرير أن يصيب مركز الهدف، وقال: «كان من الطبيعي ألا يلقى استحسانا لدى الأنظمة ذات الحوكمة السيئة ومن بينها الولايات المتحدة التي تعد نموذجا واضحا لنظام الحوكمة السيئة الذي لا يدعم الحريات.» ويكاد يبدو غريبا الآن أن إدارة بوش استخدمت تقرير التنمية البشرية العربي 2002 كأساس لأولى مقترحاتها التفصيلية بشأن الإصلاح في العالم العربي. من الواضح أن الولايات المتحدة ليست واقعة بين مطرقة المعارضة الإسلامية وسندان النظام فحسب، ولكن أيضا بين مطرقة المعارضة العلمانية (أو ما تبقى منها) وسندان النظام.
تحدوني رغبة متواضعة في أن أسدي نصيحة إلى واشنطن في هذا المقام، خاصة أن الرئيس الأمريكي سيترك منصبه في يناير/كانون الثاني 2009، ونصيحتي هي أن أي تصويت للشعب الأمريكي في انتخابات قريبة سينزل هزيمة منكرة بمن تبقى من المستشارين المحيطين بالرئيس بوش من المحافظين الجدد. ومع هذا، لا يوجد في المرحلة الحالية ما يشير إلى أن الرئيس الذي سيخلف بوش - سواء أكان من الحزب الديمقراطي أم الجمهوري - سيخرج من جعبته شيئا جديدا أو مبتكرا يسهم به في السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، أو ستكون لديه الرغبة في الاستماع إلى الأصوات المختلفة. في الوقت نفسه لا بد أن يكون واضحا وضوح الشمس الآن أمام جميع المرشحين أن التدخل العسكري غير المبرر - سواء أكان إجراء استباقيا أم غير ذلك - ما هو إلا وصفة لوقوع كارثة في المنطقة، وأن الضربة الارتدادية لن تكون مقبولة؛ ليس فقط فيما يتعلق بالمصابين والضحايا المدنيين من أبناء البلد (فضلا عن الضحايا والمصابين من الجنود الأمريكيين)، وإنما فيما يتعلق بالضغينة التي تولدها تلك الحروب بين الشعوب العربية، والفرص الملازمة التي يتيحها مثل هذا التدخل أمام الجماعات الإسلامية الموجودة ضمن التيار الرئيسي مثل الإخوان المسلمين لكسب المزيد من التأييد.
وإذا دنونا من المجتمع المصري من منظور مختلف، فسنجد جانبا مشرقا يتمثل في حقيقة أن تأثير الإخوان المسلمين على التيار الرئيسي محدود منذ عشرينيات القرن العشرين ؛ وأن الإسلام الذي يمارسه معظم المصريين هو في الأساس إسلام صوفي في طبيعته، لذا فإنهم تلقائيا لا يحتملون المذهب السني المتشدد (ناهيك عن العنف الذي يمارسه تنظيم القاعدة)؛ وأن المسلمين والمسيحيين في مصر فخورون إلى حد بعيد بتاريخهم المشترك، ويعيشون حياتهم ككيان واحد يشارك كل منهم الآخر في الاحتفالات والمناسبات الدينية؛ وأنه على الرغم من دعاية النظام المناهضة لإسرائيل فإن المصريين على استعداد للعمل مع الإسرائيليين ما دامت بنود الاتفاق عادلة ومنصفة (بدليل «المناطق الصناعية المؤهلة» الإسرائيلية المقامة في مصر) وما دام التعامل مع محنة أشقائهم العرب في فلسطين يتخذ شكلا جديا؛ وأنه ما زالت هناك حالة من الإعجاب الشديد بالحرية السائدة في أمريكا وأوروبا - بعيدا عن السياسية - حتى إن كثيرين من المصريين كل عام يقدمون على المجازفة بحريتهم بل وبحياتهم من أجل أي فرصة يذوقون معها هذه الحرية بأنفسهم.
مفتاح الحل بالطبع في الملياري دولار التي تدفعها الولايات المتحدة لمصر سنويا في صورة مساعدات، والمرهونة على نحو قاطع بالتقدم على طريق الإصلاح في ظل تهديد واضح بتوجيه الأموال إلى المشروعات الأساسية التي من شأنها تعزيز الديمقراطية في مصر ما لم يكن يتحقق فعليا وليس فقط يعزز شفهيا. لا بد لواشنطن أن تتلقى مقابلا عن الأموال التي تدفعها، وما الذي سيضير واشنطن حقا لو سلكت هذا الاتجاه؟ ليس واردا أن يسلم نظام مبارك السلطة إلى الإخوان المسلمين، أو أن يؤجج الغضب الشعبي إلى الحد الذي يخرجه عن نطاق السيطرة. من من المصريين لن يبتهج عندما يتلقى النظام صفعة مجازية على وجهه إذا وضعنا في الاعتبار ما يتلقاه الكثيرون منهم من صفعات حقيقية وما هو أسوأ منها من زبانية النظام؟ في هذه الأثناء، نجد أن إسرائيل متفوقة عسكريا على مصر حتى إن أي هجوم لمصر عليها سيكون أشبه بالانتحار. وعلى الصعيد الإقليمي تضاءل تأثير مصر كثيرا؛ فمن فلسطين إلى العراق، ومن لبنان إلى سوريا، والأهم إيران، باتت الكلمة العليا الآن للملكة العربية السعودية، ولا يوجد حليف تعتمد عليه واشنطن في العالم العربي أكثر من آل سعود، فضلا عن أن السعودية تكاد لا تتأثر بضغوط واشنطن في ظل الارتفاع التاريخي غير المسبوق في أسعار النفط. وفي ظل هذا الضغط الذي يتعرض له النظام المصري، لن يجد خيارا سوى تقديم إصلاحات جادة وإن كانت بطيئة؛ فالتحرك ببطء أفضل من عدم التحرك على الإطلاق.
على مدار مائتي عام، اختارت مصر الاتجاه الذي ستسلكه بين قطبي الشرق والغرب. فعامة المصريين حلفاء طبيعيون لواشنطن إذا رأوا أن فائدة حقيقية ستعود عليهم من وراء هذا التحالف. فتخلي واشنطن عن الشعب المصري عن طريق سماحها للوضع بمزيد من التدهور - وما سيترتب عليه من خطر وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم - وكأن الشعب المصري لا يستحق أفضل من ذلك ولا يريد أكثر من ذلك، على حد قول المحللين السياسيين في واشنطن سيكون أكثر من مجرد خيانة لأكثر ثقافات العالم العربي حيوية وتنوعا؛ وسوف يؤذن أيضا بموت الديمقراطية والتعددية في كل مكان في المنطقة. وبإيجاز، تحتاج واشنطن إلى نظرة بعيدة المدى وإعادة تقييم متأنية لدعمها للديكتاتور إلى جانب بذل قصارى جهدها من أجل حل القضية الفلسطينية التي يستغلها بهدف تشتيت الانتباه عن مواطن ضعفه الهائلة. وعلى الولايات المتحدة أن تحث على الإصلاحات الاقتصادية التي تستهدف مصالح الشعب المصري.
الولايات المتحدة صاحبة تاريخ طويل من التورط في منطقة الشرق الأوسط، ونادرا ما كانت سياسات واشنطن تتخذ المسار الذي أرادته لها؛ حتى وإن افترضنا حسن نيتها. يعد برج القاهرة واحدا من أشهر المباني في سماء القاهرة، وهو إحدى التركات التي خلفتها الجهود الأمريكية الرامية لكسب تأييد عبد الناصر. تقول إحدى الروايات إنه بني بأموال دفعها - على سبيل الرشوة في الواقع - كيرميت (كيم) روزفلت رجل المخابرات المركزية الأمريكية الأسطورة (الذي لعب - بالمصادفة - دورا محوريا في إعادة الشاه عام 1953). ويعرف برج القاهرة باسم «وخزة عبد الناصر»، لأن عبد الناصر أخذ الأموال ومضى جذلا يواصل سياساته الخاصة. ونوعا ما تكرر الحكومة الحالية الفعلة ذاتها مع الأمريكيين، وقد أوجز بوش حقيقة الصفقة بإتقان أثناء لقائه مع قاسم في واشنطن. وفي ظل تضاؤل مكانة أمريكا في المنطقة - بسبب فشلها الذريع في العراق وعدم إحرازها تقدما في مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين - يرى مبارك محدودية الخيارات المتاحة أمام الأمريكيين على المدى القريب وتضاؤل الرغبة في ممارسة المزيد من الضغوط. وهذا من شأنه أن يقنع النظام بأن جميع الأسباب متوفرة أمام استمرار الوضع الراهن. •••
في خريف عام 2007، أجرى الحزب الوطني الديمقراطي انتخابات اختيار رئيس للحزب، وأثناء الإعداد للانتخابات كان هناك إجماع على أن مبارك سيفوز بسهولة؛ وفي نبؤة دقيقة على عكس عنوان «ديوي يهزم ترومان» الخاطئ الشهير الذي خرجت به صحيفة شيكاغو تريبيون قبل حسم نتيجة الانتخابات الأمريكية عام 1948 لصالح ترومان، أوردت صحيفة «الجمهورية» القومية مقالا تحت عنوان «مبارك سينتخب بالإجماع». وهو ما حدث بالفعل، بينما ترقى جمال إلى منصب أعلى داخل الحزب ما جعله - وفقا للوائح الرسمية الروتينية - قادرا في النهاية على ترشيح نفسه في الانتخابات. ربما تكون الأنظمة المستبدة رتيبة، لكن على الأقل يسهل التنبؤ بما سيحدث فيها. ويبدو مع الأسف أن هذا ما تريده واشنطن. لكن المشكلة تكمن في أنه قلما يمكن التنبؤ بما سيحدث في عالم السياسة خاصة في الشرق الأوسط. ومع أنه لا ينبغي الاستخفاف بقدرة نظام مبارك على الاستمرار على نحو متخبط، فإن الاهتياج المستتر الذي يسود أوساط العمال وغيرهم لا يدعو للتفاؤل. أيضا لا يرسي النظام أساسا لزيادة الانفتاح عن طريق تبني سياسات من المرجح أن تسفر عن زيادة تأييد الشعب، حتى وإن لم يكن هذا التأييد بالإجماع. وبسبب افتقار النظام إلى الأفكار أو الأيديولوجية أو الرموز التي تحظى بالقبول لدى الشعب، فإنه ينصرف عن وضع حلول للمشكلات على نحو يؤدي إلى تفاقمها.
ومن سيكون هناك للاستفادة من هذا الوضع؟ إنهم الإخوان المسلمون. لا أقصد بذلك أن الإخوان يتمتعون بشعبية كبيرة، ناهيك عن امتلاكهم لحلول عملية (أو صالحة للتطبيق)؛ وإنما أقصد أنه باعتبارهم كتلة المعارضة الوحيدة المنظمة، فإنهم الأقوى تلقائيا. حدد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين استراتيجية قائمة على الصبر تمر بثلاث مراحل حتى الوصول إلى السلطة؛ مرحلة الدعاية (الإعداد)، ومرحلة التنظيم (التي تهدف إلى توعية الشعب)، وأخيرا مرحلة الفعل (امتلاك السلطة). وبالرغم من أن هذا المخطط ربما كان عاما ومبهما - كحال معظم تحليلات الإخوان المسلمين في الواقع - فإنه يشير ضمنيا إلى وجود إجراءات عملية، ويمكن القول إن الإخوان المسلمين وصلوا إلى المرحلة الثانية الآن بدليل تركيزهم على التعليم والثقافة، أو - على الأصح - بدليل اجتثاثهم لكافة أشكال التعليم والثقافة التي لا تتفق وعقيدتهم الإسلامية.
يتجلى بوضوح أيضا أن الإخوان المسلمين يستفيدون من تجارب غيرهم. ففي خريف عام 2007، أشارت صفحتهم الإلكترونية الرسمية بإيجاب إلى مقال صادر عن هيئة الإذاعة البريطانية تناول الظروف التي تؤدي في الأغلب إلى انتفاضة شعبية والإطاحة بالحكومة، مستعينة بتجربة لم يحالفها الحظ في ميانمار (بورما) الواقعة تحت الحكم العسكري كمثال على ذلك. ومن بين العوامل الرئيسية التي ذكر أنها تؤدي على الأرجح إلى إحداث تغيير في نظام الحكم: الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق التي تؤدي إلى ظهور عدة تكتلات اجتماعية واقتصادية مختلفة؛ وظهور قيادة معارضة لديها أفكار واضحة يمكن حشد الشعب حولها؛ والقدرة على استخدام وسائل الإعلام بصورة ما لنقل رسالة معينة؛ ووجود آلية لتقويض النظام القائم سواء عن طريق انقلاب داخلي في حالة الحكم العسكري، أو ظهور الإصلاحيين، أو إنهاك النظام الحالي بما يؤدي إلى انهياره. وطرح الناشط الإخواني المتحمس الذي لفت الانتباه إلى المقال سؤالا على أقرانه الإسلاميين على موقعهم الإلكتروني هو: «هل يمكن تنفيذ هذا في مصر؟» ويخيل إلي أن هذا السؤال كان أكثر من مجرد سؤال بلاغي.
خاتمة
Неизвестная страница