ضحك وقال:
رؤساء التحرير شديدو الحذر، إلى حد الجبن، حتى إنهم لا يستفيدون من هامش الحرية المتاح لهم. وأيا كان ما يكتبونه فإنه لا يلقى تصديقا من أحد. وغالبا ما تتسم كتاباتهم بالضعف الشديد على أي حال؛ فهم يعيشون في خوف دائم من فقدان المنصب، وما سيترتب عليه من ضياع كافة المزايا المصاحبة له؛ ومنها على سبيل المثال المزايا المالية، والوجاهة الاجتماعية، وتلقي دعوات من الرئيس للسفر معه على طائرته الخاصة، وحضور اجتماعات مع قادة الدول الأجنبية (على الرغم من أنهم لا يطرحون سؤالا لائقا على الإطلاق في المؤتمرات الصحفية التي تعقد على هامش تلك الاجتماعات لأنهم أصحاب قدرات متواضعة).
ذكرته بالفضيحة الكبرى التي تورط فيها رئيسه السابق إبراهيم نافع رئيس تحرير «الأهرام»، وراتبه الشهري المشين الذي بلغ نصف مليون دولار، وسألته هل الفساد داخل الجريدة ضار كما يشير هذا المثال، فأكد لي أنه كذلك بالفعل؛ ثم تنهد وأضاف: «المشكلة الرئيسية هي أن كل هذه الصحف المملوكة للدولة تعتمد اعتمادا هائلا في جني أرباحها على الإعلانات.»
على سبيل المثال، ثمة العديد من الإعلانات عن وحدات سكنية فاخرة في صحيفة «الأهرام». وقد كتبت عمودا عن أن قطاع البناء بأكمله حكر على الأثرياء. فهم يبنون فيلات وعمارات سكنية فاخرة في كل مكان في البلد من أجل أصحاب الملايين فقط. ذكرت أن هذا يدمر نسيج مجتمعنا؛ فمن أين لشاب في مقتبل العمر بشقة يتزوج فيها؟ من أين له بنصف مليون جنيه؟ في اليوم التالي عرفني أحدهم على شخصية مؤثرة في الحزب الوطني الديمقراطي ومليونير أو ملياردير أو أيا كانت صفته، حاول أن يقنعني بأن ما كتبت يفتقر إلى الصحة متعللا بأنه في الوقت الذي يبنون فيه مساكن للأثرياء فإنهم يبنون مساكن أيضا لشرائح أخرى في المجتمع. أخبرته أني لن أغير كلامي لأنه كان مؤيدا بالحقائق والأرقام التي توضح أن أصغر شقة تبنى هذه الأيام تصل تكلفتها إلى نحو ربع مليون جنيه، وهذا ينطبق على المباني التي تبنى خارج المدن وسط الصحراء. وهكذا تحديدا يتضخم الفساد. ألمح الرجل إلى أن بوسعه تسهيل حصولي على إحدى الشقق إذا وافقت على كتابة مقال أتراجع فيه عما ذكرت آنفا، لكن حينها كنت سأضطر إلى أن أصمت بعدها إلى الأبد.
وهل كان سيعطيك شقة بالفعل؟
بالتأكيد! هذا ما يحدث هنا في «الأهرام» طوال الوقت. من الصعوبة بمكان أن تحافظ على نظافة يدك. هناك من الصحفيين في هذا المبنى من قام بذلك، وتلك معلومات مؤكدة. هؤلاء الصحفيون حصلوا على شقق، لكنها لم تمنح لهم في صورة هدايا بالطبع. فالصحفي «يشتري» الشقة التي تساوي نصف مليون مقابل مائة ألف فقط، ثم يبيعها بسعر السوق، ويحقق من ورائها ربحا طائلا. إذا كانت شركات المقاولات تنتهج هذا الأسلوب مع الوزراء، فلم لا تنتهجه مع الصحفيين؟ بيع أحد المجمعات السكنية المصممة على الطراز الغربي لوزراء فقط وبأسعار بخسة. تذكر أن الصحفيين يحصلون على رواتب متدنية، ومن ثم يضطرون إلى البحث عن وسيلة لزيادة دخلهم.
قلت له إذا كان بعض الصحفيين في الصحف القومية فاسدين، فمن المنطقي ألا يكون لديهم دافع لكشف الفساد المماثل في الحكومة.
هذا صحيح بالقطع، لكن هناك أثر إيجابي لذلك؛ فهذا الوضع أتاح فرصة كبيرة أمام صحف المعارضة التي تتميز في هذا الجانب عن طريق سد الفجوة في تغطية قضايا الفساد. لكن لهذا السبب لا تحصل صحف المعارضة على إيرادات إعلانية، ولا يستطيعون أخذ تصريحات من مسئولي الحكومة. وهذا بدوره يخلق حلقة مفرغة أخرى؛ فنظرا لأن مسئولي الحكومة يتملصون من صحفيي المعارضة الذين يسلطون الضوء على قضايا الفساد، ويتعاملون معهم بوصفهم أشخاصا مشاكسين، نجدهم غير قادرين على الحصول على تصريحات من هؤلاء المسئولين، ولذا لا يجدون بدا من استخدام المعلومات التي تتاح لهم أيا كان مصدرها. وعندما ترى مقالاتهم النور، يغير مسئولو الحكومة مواقفهم قائلين إن هذه المعلومات مغلوطة ويقاضون كاتبيها. •••
احتلت مصر المرتبة السادسة والثلاثين من بين مائة وسبعة وسبعين دولة في قائمة الدول الفاشلة وفقا لما نشره «صندوق السلام» - وهو مؤسسة حقوقية مستقلة تهتم بالتعليم والبحث وتتخذ من واشنطن مقرا لها - في يوليو/تموز 2007. وفشل الدولة إما يعني أن الحكومة فقدت السيطرة المادية على أراضي الدولة - كما هو الحال في الصومال وأفغانستان - أو أنها فقدت السلطة في تنفيذ القرارات، وتوفير الخدمات للمواطنين، والعمل ككيان متماسك يكون الممثل الوحيد للشعب على الساحة الدولية. يعتمد «صندوق السلام» على اثني عشر مؤشرا لقياس فشل الدولة، وقد حصلت مصر على تسع درجات كاملة من إجمالي عشرة في معيار تجريم الدولة وافتقادها للشرعية، وهو ما يمكن فهمه على أنه «استشراء هائل ومتوطن للفساد، أو تربح النخب الحاكمة ومناهضتها للشفافية والمساءلة والتمثيل السياسي، والفقدان الهائل لثقة الشارع في مؤسسات الدولة وآلياتها، وانتشار العصابات الإجرامية ذات الصلة بالنخب الحاكمة.» وحصلت أيضا على 8,5 من عشرة في «تعليق العمل بالقوانين أو التطبيق التعسفي لها، وانتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع.» في حين حصلت على 8,3 في «ظهور النخب المنقسمة على نفسها» أو «تشرذم النخب ومؤسسات الدولة» واستخدام «الشعارات السياسية القومية من قبل النخب الحاكمة.»
ورد في التقرير الصادر عن «صندوق السلام» عن مصر أن «الفساد في مصر مستشر بدءا من سائقي سيارات الأجرة الذين يحاولون زيادة الأجرة دون وجه حق، ووصولا إلى توجيه أصابع الاتهام للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم بتزوير الانتخابات عام 2005؛ تلك التي فاز فيها حسني مبارك - الحاكم للبلاد منذ عام 1981 - بفترة رئاسية رابعة عندما أعاد ترشيح نفسه عن طريق مجلس الشعب، ثم فاز في استفتاء شعبي دون أي معارضة تذكر.» ذكر مجدي الجلاد - رئيس تحرير الصحيفة اليومية المستقلة «المصري اليوم» - في ندوة بعنوان «نحو مزيد من الشفافية في الأسواق المحلية» عقدت بالتزامن مع نشر التقرير أن: «هناك حالة فساد يتم تسجيلها كل دقيقتين في مصر، وعشرة بالمائة فقط من هذه التجاوزات يتم ضبطها.» وذكر صلاح دياب - مالك الصحيفة - أمام الندوة نفسها أن: «هناك فارق بين نوع من الفساد يلحق ضررا طفيفا بالمجتمع مثل دفع خمسة جنيهات لرجل شرطة لتلافي تحرير مخالفة مرورية، والفساد الضار الذي يؤدي إلى ضياع الفرص.» لكن في مصر، ليس هناك تمييز بين النوعين. وأضاف أمين هويدي، الصحفي المصري المعارض في صحيفة «الأهرام ويكلي»: «الفساد هو نتاج آلية فاسدة، وغض الطرف عنه أشبه بمحاولة علاج مرض من دون علاج أسبابه الرئيسية. الدولة القوية تحمي أمن مواطنيها، وليس أمن حكامها فقط. وتصد التهديدات الداخلية والخارجية بنفس الدرجة من الكفاءة في الوقت الذي تستحث فيه الحاكم والمحكوم على احترام قوانينها وثرواتها وممتلكاتها.» تلك الدولة - حسبما ذكر هويدي - تكافح الفساد والمفسدين. وهي بذلك «تزيح عن طريقها عقبات التقدم خصوصا وأن الفساد يقف عائقا أمام تقدم الاقتصاد وانتعاش الاستثمار.» ويستشهد هويدي بالقانون رقم 175 لسنة 2005. «ينص هذا القانون على أنه لا يجوز تعيين عضو مجلس الشعب في وظائف الحكومة أو القطاع العام أو الشركات الأجنبية أثناء مدة عضويته. وتشدد المادة 158 من الدستور على أنه «لا يجوز للوزير أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة.» تلك هي الضمانات التي تحول دون استغلال السلطة، ولكن هل تطبق تلك الضمانات؟»
Неизвестная страница