وكان جوابه قاسيا إلى حد مخيف؛ قال: «كنا سنضربهم.»
من هنا اتضحت لي حدود علاقة «الصداقة» التي تجمع بين المسلمين والمسيحيين: الأقباط يعاملون باحترام ما داموا يقبلون بمكانتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وقد نم هذا عن أنهم يحتلون أدنى مراتب السلم الاجتماعي؛ بما أن القيود على الأقباط وضعها المسلمون «المعتدلون»، وهؤلاء بدورهم يهدد الإسلام السني المتشدد تقاليدهم الاحتفالية ذات الشعبية (جذب المولد تقريبا مسلمي القرية كافة من بيوتهم مساء ذاك اليوم). كما لاحظت أصول هذا التمييز العنصري الذي يمارس ضد الأقباط في الطريق لدى خروجي من القرية في اليوم التالي. كانت جميع المنازل التي مرت بها سيارة الأجرة التي استقللناها - شأنها شأن جميع منازل أهل القرية - حديثة ومبنية بالطوب الأحمر؛ ولا تكاد تمت بصلة لصورة الصعيد المصري شديد الفقر التي يثيرها كل من يشير إلى إهمال الحكومة المصرية لتلك المنطقة. أردت أن أعرف من أين أتى ساكني هذه المنطقة بهذا المال؟ فأجابني صديقي بأن الجميع عملوا تقريبا في دول الخليج، وتمنى أن يسافر بدوره إلى المملكة العربية السعودية ما إن يفرغ من دراساته.
قالت لي جورجيت قليني - وهي عضوة قبطية في الحزب الوطني الحاكم، عينها مبارك لعضوية مجلس الشعب مرتين - عندما التقيتها فيما بعد في القاهرة وقصصت لها تجربتي في تلك القرية: «لم نشهد أي نزاعات طائفية في مصر حتى ثلاثين عاما مضت.» إلا أن تجربتي بدت لها مألوفة إلى حد يبعث على الإحباط. أوضحت جورجيت بالإنجليزية التي تحدثتها بلكنة فرنسية ثقيلة أن «المسألة بدأت عندما سافر المسلمون المصريون إلى دول الخليج العربي للبحث عن عمل إبان فترة رواج تجارة النفط التي شهدتها السبعينيات.» ثم استطردت قائلة إن الكثيرين عادوا بفكر وهابي متطرف، تستغربه بيئة مصر الدينية والثقافية التي اتسمت على مر التاريخ بالتسامح، فكر يحدث المسلمين بأنهم أسمى ممن سواهم. زعمت قليني أن هذا الفكر كان قابلا للانتشار على الأخص في مجتمع صعيد مصر الذي اتسم بالفعل بالقبلية إلى حد بعيد، كما كان لنمو حركة الإسلام السياسي، التي نشأت في مصر في العقد نفسه وبشر بها الإخوان المسلمون الذين تودد إليهم السادات ليساعدوه في تهميش اليساريين، دور في ذلك أيضا. قالت قليني وهي تكبت قشعريرة سرت في جسدها: «من ثم عندما سمع مسيحيو مصر فجأة شعار الإخوان المسلمين الذي يتكرر دائما وأبدا - الإسلام هو الحل - تملكهم الخوف، وشعروا بإقصائهم أكثر عن التيار السائد.» وأردفت: «ينص دستورنا على أن جميع مواطني مصر متساوون، لكن الواقع يختلف عن ذلك، أستطيع أن أعطيك مثالا، صاحب المؤسسة المسلم الذي لدية أربعة وظائف شاغرة، سيوظف أربعة مسلمين. إن كنا جميعا متساوين، ألا يجب أن تذهب الوظيفة للأكفأ بصرف النظر عن ديانته؟»
العنف بين المسلمين والمسيحيين المصريين هذه الأيام يهدد باستمرار بأن يخرج عن السيطرة. وقد نقل عن رجائي عطية - عضو مجمع البحوث الإسلامية - في تقرير لوكالة أنباء إنتر بريس صدر عام 2007 قوله إن أكبر خطر تواجهه مصر الآن هو إذكاء العنف الطائفي. وفي الواقعة الأكثر تأثيرا التي حدثت عام 2006، هاجم مسلمون مسلحون بالسكاكين في الإسكندرية مصلين في كنائس قبطية، وتوفي مسيحي في الثامنة والسبعين من العمر وأصيب الكثيرون. وفي الموكب الجنائزي للمتوفي، اندلعت مصادمات بين المسلمين والمسيحيين توفي على أثرها مسلم وأصيب ما يزيد عن أربعين شخصا من كلتا الديانتين واعتقل عشرات آخرون. ووفقا لتقرير موقع ميدل إيست ريبورت أونلاين، اندلعت في اليوم التالي مشاحنات في الشوارع بعد أن سار المسيحيون في شوارع الإسكندرية الرئيسية حاملين صلبانا، وصارخين بشعارات مسيحية. فلطالما كان الحي المسلم الذي وقعت فيه هجمات الكنيسة في الإسكندرية مرتعا للإسلام على المنهج السعودي.
إلا أن الكثير من مراقبي منظمة حقوق الإنسان المسيحيين المصريين يلقون باللوم على حكومتهم، وإن كان يوجد ما قد دعم نظريتهم فهو ليس إلا المدونة التي أنشأتها هالة حلمي بطرس، وهي قبطية من صعيد مصر أنشأت المدونة للفت الانتباه إلى ما وصفته بالتحرش والعنف اللذين يستهدفان الأقباط، فلم تلبث أن وجدت نفسها نموذجا له، بعد أن أغلقت مدونتها، وتعقب البوليس السري تحركاتها وتجسسوا على مكالماتها ورسائل بريدها الإلكتروني وبعد أن قالت مجموعة من البلطجية - يعتقد أن الحكومة قد أجرتهم - لوالدها أثناء ضربه إن هذا الضرب: «هدية من ابنتك.» لكن ثمة آخرون يردون بأن صور عنف الدولة تلك لا علاقة لها بالدين في الأساس. يقول جورج إسحاق مؤسس حركة كفاية المعارضة والمنادية بالديمقراطية وبالإطاحة سلميا بنظام مبارك: «أنا قبطي وأحيا حياة سعيدة في حي يملؤه المسيحيون والمسلمون. الشرطة تتعامل بعنف مع أي اضطراب عام، وهذا ما يجعل الأمور تخرج عن نطاق السيطرة.»
لكن ثمة شكاوى أخرى رددها الأقباط منذ وقت طويل، من بينها قلة عدد ممثليهم في جهاز الشرطة والجهاز القضائي والقوات المسلحة والهيئات المدنية والحكومة والنظام التعليمي، كما أنه يوجد شبه حظر على التحاق المسيحيين بأجهزة الإذاعة والتليفزيون التي تديرها الدولة. ومن الأمثلة التي كثيرا ما يستشهد بها على التمييز الذي تمارسه السلطات ضد الأقباط؛ قانون ظل قائما حتى وقت قريب يقضي باستصدار موافقة الرئيس شخصيا على القيام بأبسط الإصلاحات في الكنائس، كإصلاح دورات المياه، وهو قانون يتهم بأنه السبب في تأخر إصدار تصاريح بناء الكنائس لما يزيد عن عقد. جعل مبارك القانون أقل صرامة عام 2005، وفوض مسئولية إصدار تلك التصاريح للمحافظين، مما استثار ردود أفعال متباينة بين الناشطين، فدعت صحيفة الوطني الأسبوعية القبطية إلى وصف الأمر بالخدعة التي تهدف فقط إلى تهدئة النقاد الأجانب. لكن يرى الكثير من المفكرين المسلمين والمسيحيين أن على الأقباط أيضا أن يقروا بتنامي تيار انفصالي وسط صفوفهم، وأكثر ما يزعج هؤلاء المفكرين برنامج يذاع على قناة الحياة الفضائية يقدمه قس يدعى الأب زكريا بطرس، وهو قس مصري اعتقله النظام مرارا عندما عاش في مصر، لكنه يعيش اليوم في منفى في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي برنامجه الشهير الذي يذاع مدة ساعة كل يوم أحد، يسب الإسلام والقرآن والنبي محمد أقذع السباب، مما حث البابا شنودة نفسه - رأس الكنيسة القبطية في مصر - على استنكار هذا بقوة. ولا شك أن شخصيات بارزة مثل القس زكريا تذكي في الأذهان فكرة المؤامرة الخارجية التي تستهدف «الوحدة الوطنية»، والتي ذاعت في وسائل الإعلام المصرية منذ عقد منتدى حول شئون الأقباط في الولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2005. هذا المؤتمر - وفقا لمقال صدر عن موقع ميدل إيست ريبورت أونلاين - نظمته اتحادات مهاجرين أقباط، وكانت فكرته الرئيسية هي أن «الديمقراطية في مصر يجب أن تعود بالنفع على المسيحيين بقدر ما تعود على الإسلاميين.» وقد تناول تناولا مباشرا بروز الإسلاميين في السياسة المصرية بعد انتخابات مصر البرلمانية، إلا أنه كان كذلك شاهدا على تسلط الضوء على نحو متزايد على الجماعات القبطية المقيمة في الولايات المتحدة. هذه الجماعات، وفقا للمقال، وجدت دعما طوعيا من الدوائر المسيحية الإنجليكية المحافظة الجديدة، بل تولت شركة بيندور أسوسيتس - وهي شركة علاقات عامة - الترويج لهذا الحدث من أجل عملائها المحافظين الجدد.
أكثر من تدور حوله نظريات المؤامرة الخارجية المختلفة هو الأسقف ماكس ميشيل، الذي درس في أمريكا، ويعد اليوم الشخصية الأكثر إثارة للجدل في المجتمع القبطي. انتقل الأسقف ماكس ميشيل قبل بضعة أعوام إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال الدراسات العليا في مدرسة سانت إلياس الأرثوذكسية، وهو يذكر أنه حصل على الدكتوراه في علم اللاهوت عام 2004، ثم نصبه المجمع المقدس في يوليو/تموز عام 2005 أسقفا لمجمع المسيحيين الأرثوذكس في المهجر الأمريكي، وهو مجمع معتمد في ولاية نبراسكا من تابعي التقويم القديم. وبعد ذلك رقاه المجمع نفسه إلى مرتبة رئيس الأساقفة في العام التالي وتسمى الأسقف باسم يليق بالملوك هو ماكسيموس الأول، وأعلن نفسه رئيس أساقفة المسيحيين الأرثوذكس في مصر والشرق الأوسط، متحديا بذلك تحديا سافرا سلطة البابا شنودة، ولقبه الكامل هو بابا الإسكندرية ال 117 وبطريرك أبرشية سان مارك. ثم أعلن بعد ذلك أنه سيؤسس مجمعا أرثوذكسيا مقدسا جديدا. أعقبت هذا - وفقا لصحيفة إيجيبت توداي - دعوة رسمية له من السفارة الأمريكية في القاهرة لحضور احتفالات الرابع من يوليو/تموز (يوم الاستقلال)، على نحو أثار التساؤلات حول وضع الولايات المتحدة في القضية. لكن السفير الأمريكي في مصر فرانسيس ريكياردون أصدر فيما بعد تصريحا ينفي فيه دعم الولايات المتحدة لميشيل.
يوجه ميشيل انتقادات حادة للبابا شنودة والنظام الإداري الذي تنتهجه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي يشبهها بكنائس معاقبة الهرطقة في العصور الوسطى في تعاملها مع من يخالفونها في الرأي. قال لي القس ماكس ميشيل في كنيسة سان أثناسيوس في القاهرة وهو يرتدي زيا بابويا: «الاتجاه والسلوك المتبع داخل الكنيسة القبطية هو نفسه المتبع في العصور الوسطى.» ثم أردف قائلا: «البابا هو صاحب السلطة الوحيدة، ويجب أن يكون مطاعا. علينا أن نعود إلى ما يقوله الآباء الأصليون المؤسسون للكنيسة الأرثوذكسية لا لما يقوله هذا البابا، فحتى رواد الكنائس يؤمرون بعدم شراء صحف معينة تنتقد البابا شنودة ويقال لهم إن الكنيسة ستنبذهم إن اشتروا هذه الصحف.» وقالت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية القبطية في بيان لها: «ماكس ميشيل عينه قوم تخلوا عن الكنيسة الأرثوذكسية ... لذا لا تعترف الكنيسة الأرثوذكسية بسلطته.» وأخبر المتحدث باسم الكاتدرائية الأرثوذكسية القبطية في القاهرة سالب متى ساويرس الصحف أنه من المحتمل أن الولايات المتحدة تدعم بالفعل هذا الانقسام في الكنيسة الأرثوذكسية بهدف الإضرار بشعبية البابا شنودة. لكن ماكس ميشيل أنكر أي صلة بينه وبين الحكومة الأمريكية وأخبرني بأنه لا تجمعه صلات إلا بمن كون معهم صداقات أثناء دراسته، والمصريين الذين التقاهم أثناء إقامته في الولايات المتحدة.
ووفقا لصحيفة إيجيبت توداي فإن ميشيل يحيد عن تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية في ثلاث نقاط هامة: أولا، فيما تصر الكنيسة الأرثوذكسية على عدم إجازة الطلاق إلا في حال اعتناق الزوج أو الزوجة دينا آخر أو في حالة الزنا الفاحش، يرى القس ميشيل أن هناك على الأقل ثمانية أسباب تجيز للمسيحي طلب الطلاق. كما أنه يحج إلى المواقع المقدسة في بيت المقدس والضفة الغربية وهذا طقس حظره البابا شنودة الذي صرح بأن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لن تطبع العلاقات مع إسرائيل إلا بعد التوصل إلى تسوية دائمة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وفوق ذلك، لا يرى ميشيل أن هناك سببا يمنع زواج الأساقفة وهو نفسه متزوج ولديه طفلان مع أن القانون الكنسي القبطي لا يؤهل إلا القساوسة غير المتزوجين للترقي إلى مرتبة الأساقفة.
ويثق ميشيل من أن الحكومة المصرية ستصادق رسميا على إنشاء كنيسته الجديدة. فوفقا لقوله، بعد عام واحد من تأسيسها، صار لدى الكنيسة بالفعل عشرة أفرع في أنحاء البلاد وآلاف الأتباع، لكنه موقن أيضا من أنه سيجابه معارضة لا من الكنيسة القبطية ومحاكم القانون المدني وحسب، ولكن من أغلب الأصوات القبطية أيضا. وقد شن منير فخري عبد النور - رجل الأعمال القبطي البارز - حملة ضده لدى عودته إلى مصر وصفه فيها بأنه «دجال».
Неизвестная страница