المفارقة الفعلية هي أن الإخوان المسلمين أنفسهم يلعبون دورا في ذلك، وأعتقد أن هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل حمدي حسن، المتحدث باسم الجماعة، لا يرى وجه التناقض الذي سألته عنه وهو أن الجماعة تعد إلى حد بعيد جزءا من مشكلة مصر العويصة الحالية لا حلا لها.
استغلال مبارك لمخاوف واشنطن من الحضور الذي تتمتع به الجماعة على المستوى الشعبي في بعض القطاعات الفقيرة يسمو بمنزلة الجماعة كثيرا. وتتضح مصلحة الإخوان من بقاء مبارك في السلطة - على الأقل إلى أن يحين وقت انتزاعهم لها منه في ثورة شعبية - عندما ننظر بعين الاعتبار لحقيقة أن جماعتهم لا تتمتع بتأييد غالبية الشعب المصري وأن النظام رغم ذلك يسحق البدائل العلمانية لهم، محققا مصلحتهم في الوقت الذي يشجع فيه ثقافتهم الفاشية. وقد أظهرت الجماعة في بعض الأحيان حماسا شديدا لمساعدة النظام على تحقيق هذا. فدائما ما شدد عمر التلمساني - المرشد الإصلاحي الذي تمتع بنفوذ كبير في السبعينيات وأوائل الثمانينيات - على حاجة الجماعة إلى اعتراف وقبول رسمي، حتى إنه امتدح مبارك كقائد يجلب المزيد من الحريات قائلا إنه «رجل نزيه، شديد الذكاء، يعرف ما يريد». كما كانت جماعة الإخوان المسلمين عام 1987 جبهة المعارضة الوحيدة في البرلمان التي صوتت لتولي مبارك - المفترض أنه عدو الجماعة اللدود - الرئاسة فترة ثانية.
تعود مفارقة مهاجمة الحاكم وخدمته في الوقت نفسه إلى وقت طويل مضى، على سبيل المثال: لطالما قيل إن الملك فاروق وحتى البريطانيين شجعوا جماعة الإخوان المسلمين في أيامها الأولى باعتبارها وسيلة لمناوءة تأثير حزب الوفد القومي، والأغرب أن بعض الوثائق الرسمية التي كشف عنها مؤخرا بعض الباحثين الذين أخضعوا حقبة عبد الناصر للدراسة أظهرت أن الجماعة - التي يفترض أنها كرست نفسها لتخليص مصر من السيطرة الأجنبية - أجرت بالفعل مفاوضات مع المخابرات المركزية الأمريكية تدور حول احتمالات نجاح انقلاب تقوده الجماعة ضد عبد الناصر.
لا تزال جماعة الإخوان المسلمين إذن ركيزة أساسية في بناء النظام وليست عدوا له، تضمن بقاءه في الوقت الذي تهاجم فيه ضعف كفاءته، وأعضاؤها جميعا يؤمنون إيمانا راسخا بأنهم سينتصرون يوما ما طالما أن الله معهم، وفي الوقت نفسه يتابعون السعي لأهم أهدافهم وهو أسلمة مصر من جذورها، وآخر قطعة في هذه الأحجية هي الشعب المصري. يعلم مبارك أن الشعب المصري رغم كراهيته الشديدة له يكره أغلبه أن يحكمه نظام إسلامي ينتهك حياته الخاصة (بالإضافة إلى حياته العامة)، مما يعطيه مبررا آخر للتهويل من شأن الجماعة. •••
يعود كثير من تباين التيارات الإسلامية في مصر منذ السبعينيات بين مؤيدي الثورة العنيفة وبين رافضي العنف الذين يؤثرون الإصلاح التدريجي إلى كتابات سيد قطب. ففي الوقت الذي اتخذ فيه الراديكاليون الإسلاميون العازمون على الإطاحة بالنظام العسكري من كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» (1964) برنامجا سياسيا لهم، أدارت جماعة الإخوان المسلمين ظهرها لقطب رفضا للعنف، ورجعت إلى التقاليد العظيمة للفكر الإسلامي الليبرالي التي كانت في أفضل أحوالها في قاهرة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي كان أشهر من عبر عنها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ورشيد رضا. لكن كما يظهر بوضوح من نجاح جهود إدانة أبي زيد وتطليق زوجته منه قسرا، ونقد الإخوان الصاخب مؤخرا لمجرد احتمال ألا ترتدي المرأة الحجاب؛ فإن فكر الجماعة يتسم بالسطحية وضيق الأفق في فهمه للإسلام والتقاليد الاجتماعية التي تعد جزءا من تقاليد الفكر الإسلامي التي تؤكد على الحاجة إلى فهم القرآن فهما موضوعيا قائما على الدراسة وضرورة احترام آراء الآخرين. إلا أن مصر لا تزال تحتضن هذه التقاليد، وما زال يحييها شخص لا يتوقعه المرء: جمال البنا، أصغر أخوة حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الذي اغتيل.
أمضى جمال البنا البالغ من العمر خمسة وثمانين عاما جزءا كبيرا من حياته في دراسة النصوص الإسلامية وبرز باعتباره مفكرا ليبراليا على عكس جميع التوقعات؛ ظهر باعتباره رجلا يحب أن يرى القيم والممارسات الإسلامية تفسر في إطار العصر الحديث. ولما كانت أخته قد تركت له الكثير من المال، استطاع أن يكرس نفسه للدراسة، وبذا وقى نفسه الانجراف وراء التيارات السياسية اليومية الشائعة. لقد وصف نفسه بأنه «رجل مستقل تماما»، يعي حظه الطيب (فهو لا يملك أسرة وليس لديه من يعيله)؛ وقال: «لست موظفا، ولا أنتمي إلى أي حزب ولا أتبع أي جهة.» وهو لم يرتد بالفعل جامعة بعد أن فصل من المدرسة الثانوية لشجاره مع مدرس، وأكمل تعليمه بعدها في معهد فني. وعوضا عن ذلك، رغب جمال البنا في أن يصبح كاتبا، وكان هذا هو ما فعله. صدر كتابه الأول عام 1946 بعنوان: «ديمقراطية جديدة»، وضم فصلا بعنوان «نحو فهم جديد للإسلام»، وقد أتى هذا الفهم من رجل يقول إنه امتنع عن الصلاة بعض الوقت في مراهقته لأنه «لم يستشعر جمال» الصلاة، وهو يقر صراحة بأن بعض أحاديث النبي محمد التي تقرب في قوتها قوة التشريعات المفروضة هي أحاديث «موضوعة». لكنه وفقا لميوله الفكرية المميزة يقول إن هذا لا يعني أنها يجب أن تسقط بلا تفكير من الاعتبار، إذ إنها ترسي مبادئ هامة. يقول جمال البنا: «يعني هذا أن الوقت قد حان لدراسة السنة على نحو مختلف.» يمكن لأي من هذه التعليقات أن تفضي بجمال البنا إلى الإعدام في الدولة الدينية، لكنه لا يعبأ بهذا ويقول بلا تفاخر، وإنما يقر بالحقيقة فحسب: «أنا أمثل المدنيين.»
التقيت جمال البنا في مكتب مليء بالكتب في مؤسسة «فوزية وجمال البنا» التي يديرها في قلب القاهرة الإسلامي، وهو بالفعل رجل فريد من نوعه، شامخ الرأس، ذو جبهة عريضة بارزة وأنف معقوف وذقن ينبئ عن حزم، انحسر شعره المجعد المصفف إلى الخلف عن جبهته، وكأنه موج يتبع سفينة تشق المحيط، في نموذج فريد للشعر المصري على رأس يكاد يبدو فرعونيا. والبنا من طراز المفكرين المستقلين هادئي الطباع، الذين يضحكون ضحكة خافتة، ويتمتعون بثقة تامة بالنفس ، لا يملك خصومهم أمامها إلا البكاء حنقا وغيظا. وزاد من إحساسي بأنني في حضرة قديس تلك الحلة الداكنة المحاكة بعناية، ذات الياقة العالية التي يرتديها على الدوام، وكأنها تعبير واضح عن إخلاصه الأبدي لطائفة دينية معينة ... فهو رجل متدين ولكنه عصري في الوقت نفسه - يرتدي حلة وليس قفطانا - لكنه ليس كأي رجل عصري التقيته.
قال لي جمال البنا إن جماعة الإخوان المسلمين تأسست باعتبارها مؤسسة مدنية، ذات مفهوم اجتماعي أكثر منه ديني، للكيفية التي يجب أن يطبق بها الإسلام ويفسر وينشر. وأضاف:
الفارق بيني وبين أخي هو الفارق بين الابن الأول والأخير، بمعنى أن حسن كان أول من ولد من إخوتي وأنا كنت الأصغر. كان بيننا فارق أربعة عشر عاما. وكان مقدرا أن يصبح حسن من أول أيامه إلى آخرها شيخا إماما وأن يموت كداعية. أما معي فقد اختلفت القصة. ولد حسن البنا في قرية المحمودية وأمضى طفولة مثالية هناك حيث التحق بمدرسة القرية الدينية الابتدائية وهو في الرابعة أو الخامسة من العمر، ولوحظ أنه تلميذ يتمتع بذكاء فريد. عين عام 1927 مدرسا في مدينة الإسماعيلية التي كانت مقرا لشركة قناة السويس، فدرس المدينة، ولم يلبث أن اكتشف أنها منقسمة بين عالمين: عالم يضم العاملين بالشركة التي كانت أوروبية تماما، وعالم يضم العمالة العربية الفقيرة الجاهلة.
وطرأت لحسن البنا فكرة تغيير هذا الواقع، فقصد المقاهي - لا المساجد - وجلس فيها، واصطفى ممن التقاهم هناك ستة عاملين من شركة قناة السويس لتشكيل جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928. يرى جمال البنا أن شخصية حسن البنا كانت ستختلف تماما إن دخل الأزهر، وكان سيعجز عن تشكيل حركته.
Неизвестная страница