يرى رأفت أن أصل جميع المشكلات هو النظام التعليمي المتداعي. باهى ناصر باتساع نطاق التعليم وافتخر بأن كل أسبوع في مصر يشهد افتتاح مدرسة جديدة. وكان هذا صحيحا. لكن ما جدوى إنشاء مليون مدرسة إن كان كل فصل يضم ستين طالبا أو أكثر، يضربهم المعلمون إن سألوا سؤالا يشوبه الاعتراض عن أقل القضايا إثارة للجدل، فيما يتقاضى المعلمون أنفسهم راتبا أقل مما يتقاضاه النادل في المقهى، وكل ما يقومون به في الفصل هو تحفيظ الطلاب والترويج للروايات الحكومية الرسمية في التاريخ والدين والسياسة؟ إن بدا لك كل هذا صعب التصديق، فتأمل هذا المثال: تدخل مبارك شخصيا عام 2006 في قضية طالبة مصرية رسبت في امتحانات الثانوية العامة بعد أن انتقدت الولايات المتحدة والحكومة المصرية في مقال، آمرا بإعادة تصحيح أوراقها لتجتاز اختباراتها. كانت هذه القصة واسعة التداول في الإعلام العربي، حتى إنها نوقشت في البرلمان، وقيل إن السلطات استدعت الطالبة واستجوبتها عما إن كانت عضوة في منظمة سرية، بعد أن تبين أنها اتهمت واشنطن في مقال الامتحان بدعم الديكتاتوريين على حساب حاجات الشعوب. لكن الديكتاتوريين بالطبع مولعون بالسياسات الشكلية؛ فعقب الأنباء عن محنة الفتاة تسربت ردة فعل مبارك السريعة إلى الإعلام فنجا من فضيحة على الصعيد الداخلي. لكن مهما صدرت القرارات الرئاسية جزافا، فلن يحجب ذلك الضوء عن طغيان معيار الكم على معيار الجودة في النظام التعليمي المصري، ولن يخفي التبعات التي خلفها ذلك على البلاد، وهي أكبر بكثير من الضغط على نحو فظ على طالبة مسكينة. قال لي رأفت:
بلا تعليم يفقد المرء وجهته، وشعوره بجذوره والتراث الثقافي الذي يملكه، وتنقطع صلته بهذا التراث لأنه لا يتمتع بالعقلية التي تمكن من فهمه وتقديره حق قدره. الجهل يعني أن تصبح غريبا عن تاريخك؛ فتكون النتيجة في نهاية الأمر هي القاهرة التي نراها اليوم. تبرز اليوم في الإعلام دعوات من حين لآخر تنادي بالحفاظ على الذي ما نزال نملكه من تراث على الرغم من عدم كفاية هذا وفوات الأوان على ذلك. الوقت في الواقع قد أزف، ونحن بحاجة إلى معجزة، لكن المصري ينهمك كل يوم في كسب ما يكفيه للبقاء على قيد الحياة حتى إن كل شيء آخر كتراثه، وجمال بيته، ونظافته ودوره في المجتمع؛ صار يحتل أهمية ثانوية لديه. •••
بعد أن سمعت آراء رأفت المقبضة للصدر عن أحوال مصر، شعرت بالإحباط، فبدا لي أن الأنسب هو قبول عرض الدكتور أحمد عكاشة، رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي، والرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي، ومدير مركز منظمة الصحة العالمية للتدريب والبحوث في مجال الصحة النفسية. وبعد بضعة أيام، قدت سيارتي قاصدا لقاء هذا الرائد البارز في مجال علم النفس في العالم العربي. كان قد افتتح لتوه منتجع صحة نفسية يطل على طريق السويس، بدا من بعيد كالكثير من فنادق الخمس نجوم التي انتشرت على مقربة من الطريق الصحراوي، لكنه يأتي على رأس نمط جديد من أساليب معالجة الصحة النفسية التي تهدف إلى التخلص من وصمة اجتماعية لطخت الصحة النفسية في مصر. كان المنتجع يقع في حديقة شاسعة ويضم صالة رياضية وقاعة للأنشطة المختلفة ومنطقة استقبال ذات نوافذ طويلة تطل على الحديقة، أهم ما فيها هو أنها تسمح بدخول الضوء من جميع الاتجاهات لإدخال البهجة إلى النفس لدى الوصول إلى المنتجع.
الرجل الذي حياني كان عنوانا مثاليا لما يهدف إليه منتجعه، كان حسن الملبس، ذا بشرة متوردة ووجه عريض متهلل تعلوه كتلة من الشعر الأبيض الكث المصفف على نحو جذاب، وتنضح مسام جسده الممتلئ بالعافية. وأثناء تجوالنا في المكان، مررنا بين الحين والآخر بواحدة من صوره الكثيرة المرسومة بالبرونز والحبر التي تناثرت في أرجاء المستشفى، فسألته إن كان يستطيع أن يسلط الضوء أيضا على حال المصريين الأقل حظا بعد خمسة عقود من الحكم العسكري الديكتاتوري القاسي. ولم يمض وقت طويل قبل أن يتضح أنه مستعد تماما لذلك. بدأ بتوضيح أن هناك فارقا هاما على حد قوله يفصل بين تمتع المرء بصحة نفسية جيدة وبين سلامته من الأمراض النفسية.
قال الدكتور أحمد عكاشة: «الصحة في تعريف منظمة الصحة العالمية هي سلامة المرء البدنية والنفسية والاجتماعية، وليس سلامته من الأمراض وحسب.» ثم استطرد: «ليتمتع المرء بصحة نفسية جيدة يجب أن يتمتع بأربع مواصفات: يجب أن يكون قادرا على التكيف مع ضغوط الحياة، وعلى الموازنة بين قدراته وبين المتوقع منه، وأن يعطي ولا يأخذ وحسب وألا تتمحور حياته حول الآخرين، وأن يكون قادرا على تقديم شيء لأسرته ومجتمعه.» وقال الدكتور أحمد عكاشة إن نفسية «المصري» - على حد تعبيره مرارا على نحو طريف أثناء محادثتنا - قد طرأت عليها تغيرات كثيرة. «المصري معروف تاريخيا بحسه الفكاهي الساخر التهكمي، فهو إن لم يجد شخصا يسخر منه، سخر من نفسه. وهو معروف باهتمامه الشديد بأسرته ومنطقته، لكنه يعارض بشدة التطرف والتعصب والعنف، ومرونته رائعة، وهو في الوقت نفسه غير أناني، تحركه أسرته ومجتمعه ودينه.»
لكن يرى عكاشة أن تلك لم تعد حاله، يقول:
لم نعد نرى الكثير من الابتسامات عندما نسير في الشارع، وثمة أسباب كثيرة لذلك، السبب الأول هو الفقر، فلا يزال أكثر من خمسين بالمائة من المصريين يعانون الفقر ويعيشون بدخل أقل من دولارين يوميا. ثم تأتي مشكلة الزحام، الذي يؤثر تأثيرا كبيرا على شخصية الفرد. القاهرة هي أكثر المدن ازدحاما في العالم؛ ففي كل كيلومتر مربع يعيش اثنان وخمسون ألف فرد، لا يوجد شيء كهذا في أي منطقة أخرى. ثم هناك معدل البطالة المرتفع، وعدم قدرة الشباب على التعبير عن رأيه بحرية. حرية التعبير تشعر المرء بكرامته وتحقق الصحة النفسية؛ فالديمقراطية تسمح بصحة نفسية أفضل، لكن يجب أن تكون ديمقراطية حقيقية، مما يعني أنه يجب أن تتحقق فيها الشفافية ومحاسبة المسئولين، ويتاح فيها للشعب القدرة على تغيير السلطات الحاكمة ... المصريون اليوم لا يجدون الشفافية في أي من نواحي حياتهم ولا يحاسب أي من لصوص الوزراء أو غيرهم من الساسة أمام الفقراء. الوضع هو نفسه منذ عام 1952: الجيش يحكم البلاد.
وذكر الدكتور أحمد عكاشة أن مبارك أسير تلك الحالة النفسية.
ثم استطرد هازئا: «إنه في الحكم منذ خمسة وعشرين عاما، والآن يأتي ليقول: «سأبدأ في الإصلاح!» هذا مستحيل بالطبع لأن الإصلاح هو تصور نفسي وهو عاجز عنه. وبدلا من ذلك يحاول أن يتخذ خطوات تخلق انطباعا بحدوثه.» والأدهى من ذلك - كما أصر عكاشة - هو اللامبالاة المخيفة التي استحوذت على الشخصية المصرية؛ «فعندما يتعرض المرء لكل هذا القدر من العذاب النفسي، وإلى كل هذه الضغوط الحياتية، يبدأ في السقوط في حالة من العجز واليأس تشعره باللامبالاة؛ فلا يكترث لشيء على الإطلاق. أنا أعيش في مصر وهم يحكمونها، لكن لا علاقة لي بهم. دعني أعطيك مثالا: بلغت نسبة من صوتوا في انتخابات عام 2005 الرئاسية 22٪ فقط من مجموع السكان. حتى في موريتانيا يصل مجموع المشاركين في الانتخابات إلى 70٪! كما أننا نعاني التزوير الانتخابي؛ فقد كشفت محكمة الاستئناف المصرية العليا أن تسعين بالمائة من المنتخبين لعضوية البرلمان في الانتخابات الأخيرة وصلوا إلى مقاعدهم بالغش، وهذا يفسر لم لم يعد المصريون يبالون من يحكمهم.»
رأى عكاشة أن مناخ الفساد قد امتد ليجتاح الدين أيضا. قال متوقفا لحظة بجانب بعض الرسومات الكاريكاتورية له التي نشرت على مدى عقود في الصحف المصرية وأحاطتها أطر: «اختزل المصريون الدين في الطقوس الدينية من ارتداء الحجاب إلى الصلاة والحج ... لكن إيمانهم الباطني لم يعد قويا؛ فهم يكذبون ويختلسون الأموال ويتصرفون بلا أخلاق.» وأضاف:
Неизвестная страница