يذكر رأفت في مقدمة كتابه أنه قد يصعب على المرء أن يتصور أن القاهرة كانت يوما ما مدينة ساحرة معماريا بالنظر إلى حالها المتدهور اليوم وتخطيطها العشوائي، لكنها شهدت ازدهارا معماريا منقطع النظير من أواخر القرن التاسع عشر إلى خمسينيات القرن العشرين، إذ احتضنت الطرز المعمارية المختلفة جنبا إلى جنب: «كالطراز الباروكي، والنيو كلاسيكي، والفن الحديث والآرت ديكو، والروكوكو الخديوي، والباوهاوس، والأرابيسك، والطرز المتأثرة بعصر النهضة الإيطالي، والطراز الفرعوني الحديث، وكل هذا أنتج نخبة من المباني الراقية. أما المنشآت التي أنشئت بين الستينيات والتسعينيات «فجميعها تقريبا سواء شرق النيل أو غربه ليست ذات قيمة جمالية على الإطلاق؛ لأنها تفتقر تماما إلى الجاذبية المعمارية.» وأصيب المستأجرون الجدد الذين سكنوا تلك المبان العظيمة سابقا برهاب الأجانب، وتوقفوا عن أداء واجباتهم نحو المجتمع. لقد روج في عهد السادات في السبعينيات لسياسة انفتاح اقتصادي لكنها زادت الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وأنتجت بين عشية وضحاها سيلا من أصحاب الملايين الذين ساعدوا في تشكيل طبقة أغنياء جديدة «من الأطباء والمحامين والمصرفيين الذين يتقاضون أجورا كبيرة، ويعملون في المقام الأول على الإبقاء على طبقة الأغنياء الجدد بصحة جيدة، وحمايتهم من الوقوع في الديون، والسجن». وكانوا - كالضباط الأحرار - رجالا لا يتمتعون بحس فني أو رؤية أو شعور بالمسئولية إزاء الوطن، أخذوا في مغادرة القاهرة فرارا إلى مبان سكنية حديثة الطراز في أحياء منعزلة لا حياة بها نشأت في ضواحي المدينة، وتعكس بصورة ملموسة فكرا حضريا يشبه الفكر السعودي، أما أحياء منطقة وسط البلد العظيمة فتركت لتتهالك.
قال لي رأفت وهو يحتسي مشروب الكابتشينو في مقهى مصمم على طراز حديث في منطقة الزمالك، وهي عبارة عن جزيرة راقية تقع في قلب القاهرة كانت فيما مضى مركزا ماليا قديما تركزت فيه الطبقة الأوروبية الرفيعة، لكن الجزء الأكبر من سكانها اليوم يشكله أبناء القطط السمان الجدد المدللين، أصحاب السيارات الفارهة الذين يتكلفون الأساليب الغربية ويتحدثون الإنجليزية بلكنة مريعة، ويقطنون في عمارات سكنية بلا طابع يميزها قامت على أنقاض فيلات أنيقة بديعة، قال: «لا أرى في قلب القاهرة إلا تدهورا من سيئ إلى أسوأ.»
وأخبرني رأفت أيضا أن أهم المشكلات التي أعقبت الانقلاب تولدت بمزيج من التشريعات الحكومية والتغييرات الاجتماعية، لا سيما في أوائل الستينيات عندما صدر قانون ضبط أسعار الإيجار الذي جاء ليكلل القوانين الاشتراكية. قال رأفت شارحا: «كان من المفترض أن يتحسن حال الجميع وأن يجد الكل مسكنا، لكن لم يتحسن حال الكثيرين ولا يزال السكن غير مكفول للجميع. كانت النتيجة الواضحة الوحيدة هي تدهور مظهر القاهرة المعماري تماما: بدءا بالمعالم البارزة إلى المستوى المعيشي إلى أحوال المباني إلى قيمتها. هل ستود مثلا الإنفاق لصيانة فيلا راقية إن كانت تدر مبلغا أقل من 100 دولار شهريا (الحد الأقصى لقيمة الإيجار الذي أقر في الخمسينيات والستينيات ولا يزال قائما إلى اليوم)؟ تأمل على سبيل المثال مبنى صدقي هنا في الزمالك الذي يضم أربعين شقة. هذا المبنى يدر أقل من مائتي دولار شهريا، هل تتوقع جديا أن ينفق ملاكه عليه للعناية به؟»
أوضح رأفت أن المباني قبل الثورة شيدت في مناخ صحي من التنافس الاجتماعي؛ إذ أراد الملاك أن تتمتع مبانيهم بموقع متميز ومظهر فريد يجذب القادرين على تحمل تكاليف الإقامة فيه، ممن يتمتعون بحس جمالي رفيع ينم عن أنهم سيعتزون بهذا المكان الجديد، لكن العهد الاشتراكي أطاح بفكرة الاعتزاز. كل ما أراده الضباط الأحرار هو أن يئووا الناس كالجرذان؛ من ثم كان أي مسكن يفي بالغرض. انتقلنا بين عشية وضحاها من عهد ذي معمار منمق ذي طابع، إلى عهد لا يحمل فيه المعمار طابعا يميزه، وزيادة هجرة الكفاءات زادت الوضع سوءا. هاجر مهندسون معماريون وموسيقيون وملحنون وكتاب ... أغلبهم تضرر تماما. إن كنت مثلا مهندسا معماريا واكتشفت فجأة أن الجهة الوحيدة والأكبر لتوظيفك هي القطاع الحكومي الذي لا يدفع إلا فتات الأجور، فستبحث عن العمل في مكان آخر. من ثم انتقل أفضل مهندسينا المعماريين ببساطة إلى دول الخليج ودول أخرى مثل ليبيا.
يرى رأفت أنه من الجدير بالذكر أن كل هذا تزامن مع ما أصبح آخر فيضانات النيل الذي نظمت دورته المحملة بالطمي حياة المصريين منذ الأزل، والذي كان لترويضه أثر هائل في نفوس المصريين.
يقول رأفت: «وكأننا نفكر في الأمور بطريقة قبل الفيضان وبعد الفيضان. كان الفيضان ينظم سلوك الجميع، ثم بنى عبد الناصر السد العالي وحاصرنا النيل، فانتهى عند أسوان وأصبح من عندها قناة ليس إلا. وفي الوقت نفسه صدرت قوانين تنظيمية جديدة أخذت تسيطر على حياتنا اليومية. فالتعليم الذي يدعى بالتعليم المجاني، قاد في نهاية الأمر إلى الجهل، والرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي المجانيين قادا إلى انعدام الرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية، وفي غمرة كل هذا أصبح الإبداع شيئا من الماضي. شهدت الحياة تدهورا في كافة جوانبها التي كان بالإمكان أن تقود إلى تحسن أوضاع مدينة كالقاهرة أو الحفاظ عليها. وما الذي تبقى لنا اليوم؟ ما الذي طفا على السطح في النهاية؟ إنها القمامة.»
لم يحاول المفكرون كرأفت التصالح مع هذا التدهور علنا إلا في الآونة الأخيرة؛ يعود هذا في جزء منه إلى تزايد شعور الحنين إلى عهد ما قبل الثورة. «لم يعد هناك تخوف من الحديث عن عهد الملكية، وعن الإنجازات الكثيرة التي قدمها الخديوي إسماعيل لمصر مع أن الحديث عن ذلك ظل محرما وقتا طويلا. ظل التاريخ وقتا طويلا يبدأ وينتهي عام 1952، لكننا اليوم نستطيع أن نتناوله بمزيد من الموضوعية وأفكارنا عنه تخضع للكثير من المراجعة. المؤرخون اليوم أكثر احترافا من أي وقت مضى، أكثر احترافا حتى مما كانوا عليه أوائل الثمانينيات، فقبل ذلك، كنا نكتب التاريخ من أجل الحكام دون سواهم، لكن مع الأسف فات أوان معالجة الوضع؛ فقد وقع الضرر، وكل ما بإمكاننا الآن فعله هو محاولة إنقاذ القليل الذي تبقى لدينا.»
كان والد سمير رأفت - الدكتور وحيد رأفت - محاميا دستوريا درس بالفرنسية، ومن أعضاء حزب الوفد القومي البارزين؛ وهو الحزب الذي حكم مصر فترة وجيزة في العشرينيات، ثم حظره الضباط الأحرار مع الأحزاب الأخرى كافة بعد استيلائهم على السلطة. طرق باب منزله في منتصف الليل واعتقله مجلس قيادة الثورة بتهمة الخيانة العظمى، لا لشيء إلا لأنه كتب سلسلة من المقالات تنتقد سياسة عبد الناصر الخارجية، فوضع تحت الإقامة الجبرية سنوات، وفيما بعد كانت مصر الدولة العربية الوحيدة التي عارضت ترشيحه بالإجماع لمنصب في محكمة العدل الدولية، فضاعت فرصته في تولي المنصب. وإن كانت قصة وحيد رأفت بالدرجة الأولى قصة من جانب المجني عليه، فإنها مع ذلك تظل تستحق الإصغاء إليها، لأن عائلته أتاحت لنا رؤية الصورة الشاملة. إلا أنني سألت الابن: لكن إن كانت حقيقة الثورة وما حققته قد خضعا للتبسيط، ألا يكون هناك خطر من تمجيد حقبة ما قبل الثورة؟ ألم يكن هذا عهدا تمتعت فيه قلة بالثروة كلها، وترك فيه نظام شبه إقطاعي أغلب المصريين في فقر مدقع.
فرد علي قائلا: «هذا يعتمد على نظرتك إلى الأمر.»
لا شك أن الفساد والمحاباة تفشيا في عهد فاروق، إلا أن مصر كانت بصدد الانتقال من دولة محتلة - احتلها العثمانيون ومن بعدهم الإنجليز - إلى دولة مستقلة. لقد نشأت ونمت بالبلاد حركة وطنية عظيمة؛ وبعبارة أخرى، لو تركت الحركة الوطنية وشأنها، كانت ستثمر نتائج أفضل بكثير من الثورة التي اعترضت سبيل التطور (التي أطلق عليها بلا وجه حق اسم ثورة)، فمع أن نظام فاروق كانت له مفاسده، نما في عهده شعور بتحسن الأحوال؛ فأخذت حالة الاقتصاد في التحسن، وسار العمل في مؤسسات المجتمع المدني على الطريق الصحيح. ولو أخذنا في الاعتبار قانون العرض والطلب، لوجدنا أن الحركة الوطنية كانت ستعالج الوضع، ولو ببطء. لكن حركة التطور توقفت، لتحل محلها حركة هجرة كفاءات. كيف يكون حال الدولة وشعبها بدون النخبة المثقفة والمؤسسات التي تنتجها؟ صارت لدينا فجأة نخبة جديدة من الضباط الذين لم يستطيعوا أن يحيطوا بالصورة الكاملة، الذين لا يملكون إلا رؤى محدودة وبعض المسلمات، والذين حسبوا أن بإمكانهم معالجة الوضع بإجراءات متطرفة، لكن حينها لم تكن هناك مساءلة على الإطلاق، واستشرى الفساد أكثر. ولأن المحافظ وعضو البرلمان ورئيس الحي وصلوا إلى مناصبهم بالتعيين، لا تستطيع بعد أربعة أعوام أن تقول لهم: أنتم مسئولون أمامي، ولن أمنحكم صوتي ثانية. آراؤنا لم يكن لها قيمة؛ المواطن البسيط لم يكن لرأيه أدنى قيمة.
Неизвестная страница