ليست غايتنا مما أسلفناه، دفاعا عن وجهة لنظر وتجريحا لأخرى، بل أردنا ضرب الأمثلة التي توضح ما زعمناه، وهو أن العروبة إن هي إلا انتماء إلى نمط ثقافي معين، وكان علينا أن نوضح ما أردناه بهذه العبارة، ومصر في هذا النمط الثقافي الذي تتميز به العروبة، قد تميزت به، وامتازت فيه، إذا كانت أقدر من سواها على تمثل تلك الرؤية بكل تفصيلاتها، وعبرت عن ذلك بسلوكها وبما أبدعته من فكر وفن.
فلئن كانت الهوية المصرية أقدم وأرسخ وأوضح من أن تكون موضعا لسؤال، إلا أن هنالك أمورا تثير شيئا من القلق عند من يريد لنفسه التيقن والدقة، وهي أمور تنشأ من تحليل المفاهيم الثلاثة المقترنة وأعني المصرية، والعروبة، والإسلام، فالمصري المسلم الصادق مع نفسه، يريد أن يطمئن على أنه ليس فيما ورد عن فرعون وقومه في الكتاب الكريم، ما يستلزم انتقاصا لشعور المصري بالاعتزاز بأسلافه، ثم يريد المصري المخلص لنفسه كذلك، أن يطمئن بأن المصرية والعروبة لا يتناقضان، بل إن الأولى تحتم الثانية، وأخيرا يريد العربي أن يكون واضح الرؤية فيما يختص بانتسابه إلى العروبة والإسلام معا، ولهذا كله عرضت ما عرضته هذا، لأن القضية تستحق النظر.
نحو فكر أوضح
كنا في لجنة ثقافية، جماعة من المشتغلين بالفكر والفن والأدب، وحملتنا موجات هادئة من حوار كان ينتقل بنا من موضوع إلى موضوع، لنجد أنفسنا أمام سؤال مطروح وأحسسنا جميعا بأهميته وخطورته، فهو وإن يكن قد ألقى بنفسه أمامنا مدفوعا بتلك الموجات الهادئة في تيار الحوار، كما ترى قطعة من الخشب أو من الورق، عائمة تتأرجح مع حركة الموج؛ إلى أن تجد لنفسها مستقرا على رمال الشاطئ، إلا أنه - وأعني ذلك السؤال الذي جاء ليطرح نفسه أمامنا - لم يكد يعلن عن وجوده حتى أدركنا جميعا مدى أهميته وخطورته، ومع ذلك فلست أذكر أنه قد ظفر منا بأكثر من دقائق ملأناها بعبارات غامضة، ثم حان موعد انصراف اللجنة فانصرفنا إلى بيوتنا؛ ولعل السؤال قد أخذ يلح علينا بعد ذلك ونحن فرادى؛ لأن اللجنة لم تعد إلى طرحه أمامها مجتمعة.
فلقد حدث في ذلك الاجتماع أن ألقي على مائدة البحث بالكرة لتتقاذفها أيدي الحاضرين في رفق ولين، وكان الموضوع الذي حملته الكرة الملقاة هو العلاقة القائمة بين ميادين الفكر والفن والأدب في حياتنا الراهنة ما طبيعتها؟ وما نصيبها من القوة والضعف، أم تكون تلك العلاقة مبتورة معدومة؟ فنحن ننتج موسيقى وننتج شعرا وننتج أدبا روائيا ومسرحيا، وننتج فنونا تشكيلية وننتج فكرا، والسؤال هو: بأي الروابط والصلات تتوحد تلك الثمرات في كيان ثقافي واحد؟ وذلك أنه لا بد في الحياة الثقافية السليمة السوية لشعب من الشعوب في كل عصر معين من عصور تاريخه، أن تكون للحياة الثقافية وحدة عضوية تربط أطرافها، ولا تخدعنك الفوارق البعيدة الظاهرة بين تلك الأطراف؛ إذ قد تتساءل: وماذا عساه أن يربط بين الموسيقى والرواية؟ وبين الرواية والنحت والعمارة وبين هذا كله وبين لوحات المصورين وأفكار المفكرين في شتى المجالات؟ لا، لا تخدعنك تلك الفوارق التي هي في ظاهرها مختلفة بعضها عن بعض اختلافات بعيدة الآماد، وذلك لأن الشعب الواحد في العصر الواحد، يستحيل ألا تجيء حياته مستقطبة حول مشكلاته الكبرى ، وعندئذ نرى جوانب تلك الحياة وكأنها كواكب المجموعة الشمسية تختلف فيما بينها لكنها جميعا تدور حول الشمس بجاذبية واحدة، وإلا فهل يمكن لشعب يعاني من وطأة مستعمر خارجي أو من طغيان مستبد داخلي - مثلا - ولا يكون ذلك الهم المشترك ضاغطا على منشئ الموسيقى وعلى الشاعر والفنان والروائي والمسرحي ورجل الفكر؟ كل ما في الأمر من ضروب التباين بين هؤلاء جميعا هو اختلافهم في الوسائل وما تقتضيه تلك الوسائل من ضرورات التعبير، كل وسيلة منها في مجالها، وأما اللباب الكامن في عمق العمل الفني أو الأدبي أو العقلي فلا بد أن يكون متشابها أو متقاربا عند الجميع، ذلك - بالطبع - لو كانت حياة الشعب المعين في العصر المعين سليمة سوية وكانت المواهب عند أصحابها صادقة مع نفسها، مخلصة لوسائلها وأهدافها.
تلك - إذن - هي الكرة التي ألقى بها من ألقاها وأخذ الأعضاء المجتمعون ينظرون بلمحات سريعة إلى ضروب الإنتاج في مجالات الفن والأدب والفكر لعلهم يقعون بينها على وشيجة القربى التي تضمها جميعا في أسرة واحدة يدور أفرادها في أفلاك مختلفة بالطبع، لكنها مع ذلك تدور حول محور واحد فلما أن غامت الرؤية أمام أبصارهم وخيل إليهم أنهم في الحقيقة إنما ينظرون إلى مفردات لا تربطها صلة الرحم، قال منهم قائل: ولماذا لا يكون هذا التفكك الذي نراه بين المنوعات مما ينتجه رجال الفن والأدب والفكر في حياتنا أمرا طبيعيا يشير إلى حقيقة قائمة بالفعل، وهي أن مصر تجتاز الآن مرحلة البحث عن ذاتها الضائعة، ويوم أن تستردها يتحقق لنا من تلقاء نفسه ذلك الكيان الواحد الموحد الذي نلتمسه في أعمالنا اليوم فلا نراه.
وعند هذه الوقفة انفضت اللجنة وانصرف الأعضاء، ولست أدري إن كان الموضوع ما زال عالقا في وعيهم يناقشه ويحلله كل على انفراد، لكنني أعلم عن نفسي أنني منذ ذلك اليوم شغلت نفسي - آنا بعد آن - بمشكلة فرعية هي فكرة «الذات» بالنسبة للفرد الواحد وبالنسبة للأمة كلها ماذا تعني؟ إنه حتى ذروة الذروة من رجال الثقافة في حياتنا قد قذفوا بالفكرة قذفا وكأنهم وصلوا بها إلى حل يستريحون إليه حين قالوا عن مصر إنها تبحث اليوم عن «ذاتها»، فما هي في الحقيقة تلك «الذات» التي نبحث أو لا نبحث عنها؟ أم يا ترى يجمل بنا أن نلف الغموض فيما هو أغمض منه ثم نأوي إلى مخادعنا لنستريح؟ إن فكرة البحث عن ذواتنا هي بغير شك عالقة في مناخنا، وربما كان ذلك في ذاته دليلا على وجود نوع من القلق في صدورنا نتأزم به، وتضطرب له نفوسنا باحثة له عن حل يزيحه عنا، لكن كان ينبغي أن نتناول الفكرة - فكرة البحث عن الذات - بجدية واهتمام طالما هي كالسحابة المتجهمة في سمائنا ولا نكتفي بمجرد ذكرها ذكرا عابرا في حديث مذاع أو في مقال مكتوب.
ولست أدعي أن ما سوف أعرضه هنا من رأي ورؤية في شأن ذلك الركن الغائب في حياتنا الثقافية كلها، هو الصواب الذي لا يأتيه باطل، بل إنه مجرد رأي ومجرد رؤية نتجت عن مداومة التفكير فيما قد زعمناه لأنفسنا في اجتماع اللجنة التي أسلفت ذكرها من أن العلة في تفكك الأوصال في كياننا الثقافي اليوم إنما ترجع إلى أن مصر تجتاز مرحلة البحث عن ذاتها، فقبل أن تحكم على قول كهذا بالصواب أو بالخطأ يجب أن نقف عند كلمة «ذات» لنعلم ما قوامها؟ وإلا فكيف يتاح لنا الزعم بأن مصر تبحث أو لا تبحث عن «ذاتها» إذا لم نكن على علم كاف بطبيعة تلك «الذات» التي هي موضوع البحث؟
كانت الصورة التي وردت إلى خاطري واستعنت بها في الإجابة عن هذا السؤال هي أنني تصورت دائرة من حبات القمح، أي إن محيط الدائرة هو من تلك الحبات موضوعة في تجاور وقلت لنفسي إنه في حالة كهذه لو سئلنا: أين في هذا التكوين الدائري ما هو «ذات» وأين ما هو أعراض لحقت بتلك الذات دون أن تكون جوهرها؟ فإن الجواب عن سؤال كهذا يكون أن الشكل الدائري في هذه الحالة هو بمثابة «الذات»، أما كون محيط الدائرة حبات من القمح فهو حقيقة فرعية لأننا نستطيع أن نستبدل بحبات القمح حبات أخرى من أرز أو ذرة أو شعير، بل أن نستبدل بها خرزات أو صخرات أو أن نرسم مكانها محيطا بالطباشير أو ما شئنا فيبقى لنا «الكيان» قائما كما هو ولا يتغير منه إلا ملحقاته وحواشيه، كما يغير إنسان معين ثيابه ويظل هو هو الإنسان الذي كان قبل أن تتغير الثياب. وإذا كان ذلك كذلك خلصنا منه إلى نتيجة هامة وهي أن «ذات» الشيء هي «الإطار» أو «الشكل» أو «طريقة ترتيب العناصر» وليس المضمون الذي يجيء ليملأ ذلك الإطار ثم يذهب مع الزمن ليجيء مضمون آخر فيحل محله حشو لذلك الإطار.
ويحسن بنا قبل أن ننتقل بحديثنا من هذه النقطة إلى التي تليها أن نزيد ما قلناه وضوحا؛ إذ ربما يصدم القارئ أن يقال له إن «ذات» مصر التي نبحث عنها إنما هي مجرد صورة مفرغة من محتواها الحضاري والثقافي؛ فلنضرب أمثلة توضح ما نريده: إذا طلب منا أن نميز بين ما هو جوهري في المسرحية اليونانية القديمة ومسرحية شكسبير ومسرحية العصر الحاضر، فهل نجيب على ذلك بأن نعرض مضمونات مسرحيات سوفوكليز ويوربيد ثم مضمونات المسرحيات التي كتبها شكسبير ثم مضمونات عدد نختاره من مسرحيات عصرنا؟ أو أن نجيب بمثل قولنا إن البطل في المسرحية اليونانية ترسم الأقدار مصيره والبطل في مسرحية شكسبير يرسم مصيره تركيبه النفسي وطريقة سلوكه والبطل في المسرحية الحديثة ترسم الظروف المحيطة به مصيره؟ إننا إذا رأينا أن الإجابة إنما تكون بمثل هذه الخصائص في التكوين لا بسرد الحوادث الداخلية في مضمون المسرحيات ذاتها، كنا بمثابة من يقول إن المميز هو في «الإطار» لا في المضمون الذي يملؤه.
Неизвестная страница