قلنا إن نقطة البدء الأولى عند العربي، في شوطه الفكري، هي تلك الحقيقة الكبرى، المطلقة من كل نسبية، الثابتة التي لا تتغير، الدائمة التي لا تزول، وقلنا إنه لا يفرضها هو من عنده كما هو الشأن عند فلاسفة اليونان وهم يفرضون لأنفسهم مبادئهم الأولى، بل إن العربي يتلقى تلك الحقيقة الكبرى وحيا، ثم يتقبلها بوجدانه إيمانا وعقيدة، وقد ترتبت على هذا الموقف عدة نتائج من حياته الفكرية.
فالأحكام الخلقية عنده تهبط إليه من السماء أوامر تطاع، وليست هي - كما هي الحال عند معظم فلاسفة الغرب - مأخوذة لنتائجها النافعة، أو لكونها تعمل على إسعاد الناس، أو لأن الخبرة البشرية قد دلت على صلاحيتها، بل هي أوامر ونواه نزلت مع ما أنزل على الأنبياء وحيا، يلتزم بها المؤمنون، حتى قبل أن يفحصوها من زوايا المنفعة والسعادة وما ذهب هذا المذهب، وبهذه النظرة تكون القيم الأخلاقية عند العربي أمورا مطلقة لا يقال عنها إنها نسبية بالقياس إلى مكان معين وعصر معين، حيث يجوز أن تتغير كلما تغير المكان أو تغير العصر، وكذلك هي عند العربي حقائق موضوعية، وليست مرهونة بميول ذاتية، وهي في موضوعيتها تلك أقوى رسوخا من الحقائق العلمية ذاتها؛ لأن هذه الحقائق العلمية لا ضير علينا من تغييرها كلما ثبت بطلانها، وأما الحقائق الأخلاقية فيتكيف لها الإنسان وهي لا تتكيف له ولظروف حياته.
ولسنا نشعر في ذلك كله بما يدعونا إلى تساؤل، لكن الذي قد يدعو إلى التساؤل حقا، هو أن العربي لشدة تعلقه بموضوعية المثل العليا وإطلاقها من قيود النسبية؛ يمد هذا الموقف حتى يشمل به الشعر، فهو في شعره لا يتغنى بامرأة بعينها في غزله، حتى وإن وجه الخطاب إلى اسم معين، ولكنه في الحقيقة يخاطب المثل الأعلى للمرأة، وهو إذ يصف جواده أو ناقته فهو لا يقف عند تفصيلات هذا الجواد المعين الذي هو جواده ولا هذه الناقة المعينة التي هي ناقته؛ بل يصف المثل الأعلى للجواد أو للناقة، حتى ولو لجأ إلى الكائن الفرد الذي بين يديه، وسيلة يتوسل بها للوصول إلى صورة المثل الأعلى.
وكما تبدو منه تلك النزعة المشرئبة نحو الكمال في موضوعيته وفي تجريده وفي مطلقيته، في ميدان الأخلاق، وفي مجال الشعر، فتلك النزعة أكثر ظهورا وأشد جلاء في ميدان الفن، كالتصوير، إنه هنا لا يرسم «أفرادا» بتفصيلات الأفراد، سواء أكان الكائن الذي يصوره إنسانا أم حيوانا أم نباتا؛ بل هو يصور «الفكرة المجردة» بمعنى أنه يكتفي من الكائن الذي يصوره بالخطوط الخارجية لطريقة بنائه، وكأنه بذلك يحاول أن يرسم، لا الجسد المجسد بحذافيره، بل «المعنى الذهني» لذلك الكائن، فانظر إلى الرسوم على سجادة، أو فيما وردت فيه رسوم توضيحية من الكتب، تر شخوص الناس أو الحيوان أو النبات أقرب إلى الأشخاص التخطيطية التي ذكرتها، لتوحي إلى المشاهد ب «الفكرة».
وقد نزداد وضوحا بالنسبة لهذه النزعة عند العربي في تفكيره إذا تأملنا اتجاهه في الفن نحو الزخارف الهندسية، كالتي نراها - مثلا - على جدران المساجد وغيرها، أو كالذي نراه من نقوش في الأواني وعلى الأبواب وغيرها، فها هنا نرى الفنان العربي تجريدا في فنه قبل أن يسمع عصرنا الحالي بالفن التجريدي، وهل هنالك ما هو أمعن في التجريد من أشكال هندسية؟ وهنا نلاحظ حقيقة بالغة الأهمية، وهي أن ميل العربي في فنه إلى تكرار الوحدات، ويقابل ذلك من الشعر تكرار القافية، إنما يشير إلى ما نتوقعه عند المشاهد، من أنه سيظل يتابع بعينه تلك الوحدات إلى نهاية الجدار، وها هنا ينتقل من الواقع المحسوس أمامه، إلى دنيا الخيال فيظل يكرر الوحدة إلى ما لا نهاية، إلى المطلق الذي لا تحده حدود ولا نهايات.
إن إدراك العربي للقيم الأخلاقية والفنية يختلف اختلافا بينا عن إدراك الغربي لتلك القيم؛ وذلك أنه بينما يميز الفكر الغربي بين ما هو واقع مما هو مثل أعلى ينبغي له أن يتحقق، تميزا يصل به إلى حد القول بأنه من طبائع الأمور أن يكون محالا على ما هو واقع بالفعل مطابقا للمثل الأعلى، وإلا فقد المثل الأعلى معناه، وكل ما يطلب مما هو واقع فعلي أن يجعل اتجاه تطوره وتقدمه نحو ما هو مثل أعلى، حتى ولو لم يكن له قط أن يبلغه، أقول إنه بينما يفرق الفكر الغربي هذه التفرقة بين ما هو كائن وما كان يجب أن يكون نرى الفكر العربي في مسألة القيم، قائما على أساس أن ما هو واقع لا بد أن يجسد الكمال الأمثل؛ وأن ذلك الكمال لم يخلق لكي يظل أملا معلقا في الهواء، بل خلق ليتحقق على أرض الواقع في الحياة الدنيا، ربما كان هذا الاختلاف في الرؤية بين الفريقين، هو الذي مال بالعربي نحو شيء من الزهد في ملاذ الحياة العابرة، وأغرى أبناء الثقافة الغربية بأن يعترفوا بما هو محتوم على البشر من أوجه النقص، فعاشوا حياتهم على هذا الأساس.
وقد تتضح لنا هذه النقطة في المقارنة بين الرؤيتين إذا أمعنا النظر في بعض الأسماء المتصلة بما نحن بصدد البحث فيه، في اللغة العربية وما يقابلها في اللغات الأوروبية، فالأوروبي يستخدم لفظة «إيديال» للمثل الأعلى، وهي مأخوذة من الكلمة التي معناها «فكرة»، أي إن المثل الأعلى لا يكون إلا في عالم الأفكار فحسب، كما يستخدم كلمة «ريال» لتعني الواقع، وهي مأخوذة من كلمة لاتينية معناها «شيء» أي إن ما هو واقع إنما يقتصر على الأشياء؛ ومعنى ذلك هو أن المقارنة بين ما هو واقع وبين ما هو مثل أعلى هي مقارنة بين «الأشياء» من جهة و«الأفكار» من جهة أخرى، ولن تكون الأشياء أفكارا، كما يستحيل على الأفكار المجردة أن تطابق واقعها تطابقا تاما.
وأما في اللغة العربية فالأمر مختلف كل الاختلاف؛ إذ إن كلمة «مثل» أو «مثال» تتضمن لغويا أن يكون المثل أو المثال أشياء في دنيا الواقع، وكل ما في الأمر هو أن الشيء يكون «مثالا» لغيره من مفردات جنسه، إذا كان الكمال قد تحقق فيه، فالجواد «المثالي» ليس مجرد فكرة ذهنية عن ذلك الجواد، بل هو جواد حقيقي فعلي مجسد بين الجياد، إلا أنه أكمل من سواه، ولهذا فقد أصبح معيارا يقاس إليه سائر الجياد؛ وكذلك كلمة «واقع» في العربية تتضمن معنى الهبوط أو الانحطاط إلى الأسفل، وإذن تكون المقارنة - في العربية - بين «المثال» و«الواقع» مقارنة بين شيئين في عالم الحس، أحدهما أكمل من الآخر، على خلاف ما رأيناه في الأسماء باللغات الأوروبية، إذ تدل المقارنة هناك بين «الإيديال» و«الريال» على مقارنة بين أذهان وأعيان، أي بين فكرة ذهنية من جهة وشيء من دنيا الحس من جهة أخرى.
وأظن أن الفرق اللغوي بين الحالتين يبين لنا ما قلناه عن الفرق بين رؤية العربي ورؤية الغربي إلى «القيم»، فالعربي يرى أن القيم بكل سموها يجب أن تتجسد في الأشياء والأفعال، في حين يرى الغربي أن ذلك مناف لطبائع الأمور؛ إذ من طبيعة الفكرة الذهنية النموذجية أن تظل أمام الناس هدفا منشودا يقترب منه شيئا فشيئا، وأما أن نتوقع للفكرة أن تتجسد بكل كمالها في أشياء وأفعال فذلك بمثابة أن نكلف الأمور ضد طباعها.
7
Неизвестная страница