اتجهت نحو «يانوس» صاحب الوجهين، ووجهت حديثي أولا، إلى الوجه الشامخ المكدود، وهو الوجه الذي يمد البصر نحو العام الذي انقضى، وسألته قائلا: هلا حدثتني يا شيخ عما أضناك من حياتنا في عامها الذاهب؟ فأجابني بقوله: هو كثير، كثير جدا يا رفيقي، لقد كان قلبي يتحطم كل يوم لما أراه وأسمعه عن الازدواجية الرهيبة التي يعيشها أهلي، ولعلها هي أس البلاء، لقد كنت أخبط كفا بكف كل يوم مائة مرة، كلما رأيت أو سمعت مصريا رشيدا عاقلا، يعلن من الرأي من أحوال بلده غير ما يكتم، فهذا الذي يكتمه يظل في نفسه حبيسا إلى أن يجد من يأمن لهم فيبوح بالسر، كيف - إذن - يعرف المسئول ماذا يريد الشعب وبأي المشاعر يحس؟ إنه يا رفيقي بلدك وبلدي، وبلد ولدك وولدي، فلماذا نعامله وكأنه غاز قاهر جاءنا من بعيد، فأخذنا نراوغه ونداوره لنقتص منه دون أن يدري بما نصنعه وراء ظهره؟ وكان رجاؤنا في شبابنا؛ لأن الشباب هو المستقبل القريب، وإذا بكثرة غالبة من هذا الشباب قد ألهاهم الهم والضعف عما يجري حولهم، فوضعوا على عواتقهم أجنحة ليطيروا بها إلى عالم الغيب.
لقد كنت أتابع حينا بعد حين، تلك الحلقات المذاعة لشباب من هؤلاء، وكنت أستمع إلى عروضهم، فأحس في ثنايا ما يقولونه حدة الذكاء، وسلامة النية، ولكن - وا ضيعتاه - كنت أجد في مشكلاتهم المعروضة تهويمات هي أشبه شيء بتخاليط المحموم وهو في غيبوبته، وأسأل نفسي: ألم يكن الأجدر بهؤلاء الشباب الأذكياء الأقوياء، ذوي القلوب الطيبة والنوايا المخلصة، أن يجعلوا همهم الأول ضرب الصحراء لتخضر وتثمر، ودق الأرض لتخرج لنا كنوزها؟ أما كان الأجدر بهؤلاء أن يجعلوا في مقدمة همومهم تلك الأمية البشعة المهينة التي تشل الفكر والطموح في ثلاثة أرباع أمتنا؟ أما كان الأجدر بهم أن يصبوا قدراتهم تلك في دراسة ظواهر الكون، فيكون منهم عالم الكيمياء، وعالم الفيزياء، وعالم النبات والحيوان؟ إنها يا رفيقي قدرات مهدرة، أضل سبيلها من أضلها، حتى بات خيرة شبابنا مغلولا أشل، يستهلك ولا ينتج لنا إلا حفنة من كلام! خذ يا رفيقي هذه الورقة واقرأ فيها ما يتوجع به شاب مخلص لنفسه ولبلده، يقول عن نفسه إنه على وشك التخرج من كلية الطب في إحدى جامعاتنا، اقرأ لتعلم كم تأخذ الحيرة بأعناق شبابنا، فإما تراه تائها في سمادير أوهامه وتهويماته، يخلق منها المشكلات الفارغة، وتطاوعه وسائل الإعلام والنشر، فتذيع في الناس - نيابة عنه - تلك الأباطيل، فإما أن تراه مشلولا بحيرته لا يدري ماذا يصنع بنفسه ولنفسه، خذ واقرأ ما كتبه واحد من هؤلاء، إنه كتب يقول:
أنا شاب - مثلي في مصر ملايين - أقترب من الخامسة والعشرين من عمري، ومع ذلك تراني أحس وكأنني في بلدي طفل يحبو، ولست أنا المسئول عن ذلك، إنني لا أشارك في مناقشة قضايا بلدي، فمن المسئول عن عزلي وحرماني أن أشارك في حمل الهموم وحلها؟ أستحلفك بالله أن تصارحني الرأي كما عودتنا: أأنا صادق الحس إذ أحس بتلك العزلة، أم هي أوهام أعيشها وأتعلل بها؟ وسواء كانت هذه أم تلك، فها أنا ذا أقرر صادقا رغبتي الشديدة في أن أجدني مشاركا، غير أني لا أجد لتلك المشاركة سبيلا، فمن الذي يسد أمامنا الطريق؟ إنني أقرأ وأسمع عن جيلكم الكثير، عندما كنتم في مثل شبابنا، فما الفرق بينكم وبيننا، لماذا نرى فيكم أبطالا مغاوير، ونرى في أنفسنا أقزاما، أطفالا، عاجزين عن أن نصنع مثل الذي صنعتموه لبلدنا ولأنفسنا؟ إنني يا سيدي لم أفقد الثقة في نفسي وفي أترابي من الشباب، لو وجدنا السبيل، لكن ماذا نصنع وحالنا هي كما وصفت لك واقعها الذي أحسه في نفسي وأكاد ألمسه بأصابعي، أريد أن أقرأ لك ما يصرف عني غمتي.
قرأت رسالة الشاب، التي أعطانيها الشيخ الذي هدته الحسرة للكثرة من شبابنا، التي رآها خلال العام المنقضي، تهيم في التيه، فتحولت ببصري إلى الوجه الآخر من «يانوس»، إلى الوجه الناضر بشبابه، الناظر إلى مقبل أيامه في العام الجديد، وسألته في لهجة الجاد وجهامة المهموم: لقد سمعتنا أيها الشاب نلحظ ما نلحظه عن أندادك من شباب العام المنقضي، فقل لي: ماذا أنت صانع بنفسك خلال العام المقبل، الذي نقف الآن على عتباته؟ فابتسم الشاب ابتسامة المستبشر الواثق، وقال: ادع لي الله يا سيدي أن يوفقني فيما اعتزمت أداءه، سأنفض عن نفسي ذلك الخمول العاجز، وسأحاول أن أصنع ما خلق الشباب لصنعه؛ لقد سمعت منك رسالة الشاب الذي أرسل إلى شيخنا هذا الذي ترى وجهه ملصقا بقفاي، يسأله: دلني ماذا أصنع لأشارك في حمل الأثقال التي أثقلت كاهل بلدي، لكنني لا أرى الحكمة في أن تهتدي فترة الشباب بذكريات شيخ مهدود مكدود مضنى، ولن أقول لك الآن ماذا أنا فاعل، لكنني بإذن الله سأصنع لبلدي ما يشبه المعجزات.
القسم الثالث
إشراقة الضحى
بينات من الهدى
كنت كمن وقع على كنز نفيس، حين وقعت على كتاب صغير للإمام الغزالي، عن أسماء الله الحسنى، عنوانه «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى»؛ ولم تكن فرحتي بذلك الكتاب عند قراءته - وكان ذلك سنة 1968م على وجه التحديد - مقصورة على قراءة الشروح المضيئة التي قدمها الغزالي لتلك الأسماء، فكثير مما قدمه في هذا السبيل كان يمكن تصوره قبل قراءته، لكن الفرحة الكبرى التي أحسستها، قد كانت عندما عرفت منه لأول مرة أن أسماء الله الحسنى ، فضلا عن كونها «صفات» باستثناء اسم الجلالة «الله» (وكنت أعلم عن ابن عربي أنه استثنى اسمين، هما: الله والرحمن) فإن مجموعة الصفات المتمثلة في تلك الأسماء، هي صفات لله عزل وجل، حين تؤخذ بمعانيها المطلقة؛ ثم هي في الوقت نفسه التي ينبغي للإنسان أن يتحلى بها، وذلك حين تؤخذ بمعانيها النسبية المحدودة؛ فعندئذ هتفت لنفسي: إنه إذا كان الأمر كذلك، كنا أمام بينات من الهدى، تقام عليها صورة كاملة متكاملة للأخلاق كيف ينبغي لها أن تكون.
كانت فرحتي بذلك الكشف الجديد (جديد بالنسبة إلي) فرحة من ذلك النوع الذي لا ينقضي بانقضاء لحظته، بل هي فرحة ما فتئت تعاودني كلما نشأ في حياتي موقف انبعث لي فيه من فكرة الغزالي شعاع يضيء الطريق؛ وما أكثر ما ينشأ لنا السؤال، في حياتنا الراهنة هذه: ماذا نريد للإنسان المصري، أو العربي، أو الإنسان أينما كان، ماذا نريد له من خصائص: في فكره، وفي وجدانه، وفي سلوكه؟ ينشأ لنا هذا السؤال، كلما أردنا أن نخطط للتعليم، وللإعلام، وللثقافة، وللتربية بصفة عامة، فتتخبط في الجواب؛ ولو أننا رسمنا هدفنا من مجموعة الصفات التي أرادها الله - جل وعلا - للإنسان، متمثلة في الأسماء الحسنى (تطبيقا لفكرة الغزالي) لأقمنا لأنفسنا الهدف المنشود. على أن ذلك الهدف لا تظهر لنا صورته واضحة، إلا إذا استطاع ذوو العلم أن يستخرجوا من مجموعة الصفات «نسقا» يدرج الأخص منها تحت الأعم، ليكون لنا بذلك تصور منهجي موصول الأجزاء بعضها ببعض! فيصبح الطريق واضحا أمامنا، يسير على جادته السائرون؛ و«النسق» الذي أعنيه، هو ذلك الضرب من ترتيب الأجزاء، الذي يشترطه، ويسعى إلى تحقيقه، منهج التفكير العلمي، وأظهر ما يظهر فيه ذلك المنهج، هو علوم الرياضة، حيث يجب وجوبا أن تجيء كل خطوة من البناء الرياضي، نتيجة لأزمة عما سبقها، ومقدمة ضرورية لما سيأتي بعدها، فإذا تم لنا بناء كهذا، عرفنا لكل جزء من أجزائه موضعه الصحيح بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى؛ وليكن معلوما أن مثل هذا البناء النسقي للأجزاء. في منطق التفكير العلمي، قائم كذلك في كل كائن حي، من النبات فصاعدا إلى الإنسان، فأعضاء الإنسان مرتبة بعضها مع بعض على هذه الصورة النسقية، إذ يمكن استدلال وظيفة كل منها اتساقا مع الوظائف التي تؤديها سائر الأعضاء؛ وإذا جاز لي هنا أن أستطرد قليلا، قلت إن تلك الرابطة النسقية، هي نفسها التي نطالب لها بأن تكون أساسا للإبداع في الأدب والفن جميعا، إذ لا بد أن تتوافر في المعزوفة الموسيقية، وفي قصيدة الشعر، وفي لوحة التصوير، وفي المسرحية، وفي الرواية، وفي العمارة، وهي هي نفسها التي تسمى في ميدان النقد باسم «الوحدة العضوية».
ونعود بحديثنا إلى موضوعنا، وهو مجموعة الصفات المتمثلة في أسماء الله الحسنى؛ والتي قلنا إنها خير ما يرسم لنا هدف الإنسان الكامل؛ على أنها إنما تكون أقرب إلى أداء هذا الدور في حياتنا، إذا استطاع أصحاب العلم أن يرتبوها في بنيان نسقي بالمعنى الذي شرحناه؛ نعم، إن الصفات وهي فرادى، يمكن الاهتداء بكل منها في مجالها، لكنها إذا توحدت كلها في بناء نسقي واحد، فإنها تضيف إلى هدايتها لنا في مجالاتها المتعددة، شعورا بالتكامل في شخصية الإنسان الذي يتلقى تربيته على هداها.
Неизвестная страница