إنني مدين بساعة من أجمل ساعات التفكير للكاتب الفاضل الذي أدخل تعديلا على نظرية التطور كما رآها «دارون»، فجعل الأناسي تنتمي إلى أصول عدة، لا إلى أصل واحد، فالناس في رأي الكاتب الفاضل، منهم الكلب الذليل، ومنهم الخنزير القذر، والفأر الجبان، والثعلب الماكر، والحمار العبيط، كما أن منهم الليث الهصور، وإنه لمن الشطط والإسراف حقا أن نحاول التوحيد فيما أراد الله له اختلافا وتباينا.
تلك لمسة عبقري لا شك في نبوغه، والرأي - فيما يظهر - حق لا ريب فيه، فليس الأمر هنا خيالا شطح بالكاتب فطار به عن الواقع، أو شطح به الكاتب وهو من برجه العاجي في عزلة عن الناس، بل هو مستمد من ذلك الواقع نفسه، ومن هؤلاء الناس، ودنيا الواقع لم تختف، ولن تختفي إلى آخر الدهر، فإن شئت تحقيقا لما نزعمه لك، فسر في الطريق مفتوح العينين، لا نطلب منك أكثر من هذا ولا أقل، على أننا نشترط شرطا واحدا، وهو ألا تنخدع بالإهاب البشري الذي يلبسه الناس في الطريق، بل احلل عراه بخيالك - ولا شك أن لك نصيبا من الخيال قل أو كثر - وسترى في جوفه الكلب أو الخنزير أو الفأر أو الحمار، أو ما شاءت لك الظروف أن تجد.
والساعة الجميلة التي أنا مدين بها لكاتبنا الفاضل هي ساعة استبطنت فيها دخيلة نفسي أولا، ثم استعرضت بعدئذ فلانا وفلانا ممن أعرف من الناس، وحاولت أن أتعقب كلا إلى عروقه الأولى ... لكنني ما إن بدأت النظر، حتى تبدى لي ما أوقعني في حيرة، إذ خيل إلي أني حين كشفت عن دخيلة «فلان» و«فلان»، وجدت في كل منهما أكثر من حيوان واحد، وكان النمر عنصرا مشتركا فيهما معا، ففي الأول رأيت كلبا ونمرا، وفي الثاني وجدت فأرا ونمرا، وهنا أسقط في يدي، ولم أدر بماذا أفسر ما أرى، فلا هو يجري مع دارون في جمع الناس تحت أصل واحد، ولا هو يجري مع مذهب الكاتب الفاضل في تعدد الأصول، بل الأمر فيما أرى يقع وسطا بين المذهبين، فأي هذه الثلاثة أختار لنفسي رأيا ومذهبا؟
ولم تدم حيرتي إلا لحظة قصيرة، ثم استجمعت شجاعتي وقواي، وانتهيت إلى قرار: فلماذا أضعف أمام دارون؟ ولماذا أضعف أمام الكاتب الفاضل صاحب التعديل؟ أليست الحقائق أمامي جهيرة الصوت، لا تدع مجالا لريب مرتاب؟ أليس «فلان» أمام ناظري، فيه الكلب والنمر في آن معا؟ ثم أليس «فلان» الآخر فيه الفأر والنمر جنبا إلى جنب؟ إن سلامة المنطق تقتضي بأنه إذا تعارضت النظرية مع حقائق الواقع فلا مفر من نسخ النظرية استمساكا بالوقائع المحسوسة، ولا بد عندئذ من إعادة التفكير، بحثا عن نظرية أخرى تتفق مع حقائق الواقع، فلماذا لا أدلي بدلوي في الدلاء، لعله يخرج إلى الناس بقليل من الماء؟ إذن، هاك ما انتهيت إليه:
ليس الناس جميعا فروعا من أصل واحد، كلا ولا هم بغير هذا الأصل الواحد، فالناس جميعا يتفقون في شيء، هو النمر، ثم يختلفون في أشياء، هي شتى صنوف الحيوان، فكل فرد من الناس في جوفه نوع من الحيوان، وإلى جانبه نمر، وهو يبدي من هذين التوءمين، ما يقابل به المواقف على أتم وجه وأوفاه، فقد رأيت «فلانا» في موقف بذاته كلبا ذليلا خافت الصوت خافض البصر، حتى إذا ما سنحت له الفرصة المواتية «تنمر»، وكذلك رأيت «فلانا» الآخر ذات ساعة فأرا هزيلا ضئيلا رعديدا جبانا، حتى إذا ما سنحت له الفرصة أيضا «تنمر».
هذا النمر الرابض في جلودنا، هو بيت الداء وأس البلاء، لو بعون الله أخرجناه، ومن جذوره اقتلعناه، صلح من أمرنا ما فسد، واستقام من حياتنا ما اعوج، لو أخرجنا من أجوافنا هذا النمر الضاري، لما وجد الكلب منا داعيا أن يذل، ولا الفأر مبررا أن يجبن، لكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه الأمنية، ودونها - فيما يبدو - خرط القتاد؟
مهلا، مهلا، فأصعب المسائل قد يزول بأسهل الحلول ... فإذا وجدت فيمن معك نمرا مسلطا عليك، وأردت القضاء عليه لينزاح عن صدرك الكابوس الذي يقض لك في الليل مضجعك، فالتجويع هو وسيلة القضاء على النمر، إن النمر يتغذى وينمو ويترعرع، كلما أفسحت له أنت من مجال «التنمر»، أما إذا جوعت هذا النمر أينما وجدته، خلصت من شره وخلص معك الوطن كله، وعملية التجويع أبسط من البساطة، فكلما بدت عليه علامات «التنمر»، انسحب من غرفته، واتركه وحيدا بغير غذاء، وعندئذ يأكل النمر بعضه حتى يقضي على نفسه القضاء الأخير، فيريح ويستريح.
ذلك ما رأيته وكتبته، أعني جزءا مما رأيته وما كتبته، بوحي من مقالة المرحوم محمد فريد أبو حديد، ثم دارت الأيام دورتها، مرت أربعون سنة منذ ذلك التاريخ إلى يومي هذا، والمشكلة في صميمها ما زالت هي المشكلة، ظاهر الناس غير باطنهم، الشوارع ملأى بالكذب، لكن الأسلوب اختلف، فتحتم أن يختلف العلاج.
لم يعد في الصدور نمور كالتي كانت منذ أربعين عاما، وإلا فمن يتنمر على من؟ لقد قوي الضعيف وضعف القوي، تبدلت المحاور، فبعد أن كان لأصحاب الرءوس ما يشبه السلطان على أصحاب الأيدي، تغير الموقف، فارتفعت الأيدي وانخفضت الرءوس، لم يعد - في الحق - أحد يستطيع أن يتنمر على أحد، وهذا في ذاته كسب كبير، لولا أن تبدل لون الحرباء لتتلاءم مع الأرض الجديدة، على غرار ما نقوله عن الاستعمار مثلا، إذ نقول إنه بعد أن تعذر على المستعمر أن يمارس السيطرة بجيوشه، غير الوسيلة، وجعلها «اقتصادا»، مما قد نفهم بعضه ولا نفهم بعضه الآخر، ولكن بقي الاستعمار استعمارا كما كان، وكذلك نقول عن ظاهرة التسلط التي تستبد بنا منذ لا أدري كم ألفا من السنين، فلكل عصر عندنا وسيلته في التسلط، وكانت الوسيلة «تنمرا» عندما كنت شابا في الثلاثين، ثم أصبح التسلط اليوم شيئا آخر، لكي يبقى جوهر التسلط قائما كما كان.
وصورته في عصرنا هذا صورة غريبة قد تخفى عن الأبصار، وأقرب تشبيه وجدته لها هو «ملاحظ الأنفار»، فليس هدف المتسلط في يومنا هذا، هو أن يكون نمرا يمزق بأنيابه فرائسه من الضعفاء، وإنما هدفه اليوم هو أن يقوم بدور «ملاحظ الأنفار»، بمعنى أن يعمل العاملون، وهو هناك على رءوسهم يقف ليرى، حتى إذا ما فرغ العاملون من أداء ما اجتمعوا لأدائه، نسب الفضل للملاحظ الذي وقف وفي يده عصا سحرية، تراها القلوب الراجفة ولا تراها العيون. «ملاحظ الأنفار» الجديد لا يتنمر كسلفه، بل قد تراه غاية في التهذيب والوداعة ونعومة الحركة، لكنه بارع في التماس طريقة نحو موقع الرئاسة، حيث يجلس مراقبا متعقبا، والعاملون من حوله يعملون وينتجون، ليكون هو آخر الأمر صاحب الفضل والمكانة معا، وفي هذا المجال لا فرق بين عمل وعمل، فقد يكون ملاحظ الأنفار في مكانه التقليدي الذي ألفناه، وهو أن يلاحظ فئة من عمال الزراعة أو من عمال البناء، ولكنه في يومنا هذا قد يرتفع ليكون ملاحظا على علماء أو أدباء أو نفر من رجال الفن، وفي هذه الحالة ليس المهم أن يكون هو نفسه عالما أو أديبا أو فنانا، إذ يكفيه أن يلاحظ ويراقب، وبقدرة قادر يصبح هو العالم، وهو الأديب، وهو الفنان، وهو صاحب البلاغة والفصاحة، على أن ملاحظي الأنفار هؤلاء، كثيرا ما يخدعون أنفسهم لئلا تثور عليهم ضمائرهم، فيوهمون أنفسهم بأن الإدارة في هذا العصر الحديث أمر باتت له أهمية، تضعه في الصف الأول، فماذا يعيب الرجل، إذا هو برع في إدارة الأنفار وتشغيلهم، حتى يستخرج منهم مكنونهم كله؟ إنه في هذا الحالة شبيه بالعالم الذي يعرف كيف يستخرج كنوز الأرض من مناجمها، وحتى لو أضاف الفضل لنفسه آخر الأمر، فذلك حقه؛ لأنه لولاه لما كان ما كان.
Неизвестная страница