وأعود إلى رؤيا الحالم الذي افترضت وجوده، وتخيلت أن تكون رؤياه التي جاءني بحثا عن تعبيرها عندي، هي نفسها الصورة التي نقلتها إلي عن الجزيرة وأهلها والشبح الذي اسمه «الغزو الثقافي»، فأقول: إن «عراف المعبد» الذي ورد ذكره في الرواية إنما يرمز إلى الفئة المباركة التي «تعرف» الأمر على حقيقته، وأين تعرفه؟ إنها تعرفه وهي في المعبد، تعرفه وهي مؤمنة بربها وبنفسها، تعرفه وهي على صلة بخالقها ومصورها وباريها، فهكذا خلقها سبحانه فئة طموحة تريد أن تطير في الهواء بأجنحة النسور، أستغفر الله، بل تريد أن تطير إلى ما هو أبعد من حدود الهواء، فتنطلق في أعماق الكون بأجنحة الصواريخ.
هذه الأجهزة وحرية الإنسان!
في مجلة «مايند» (العقل)، التي هي بين المجلات الفلسفية من أرفعها مستوى، إن لم تكن أرفعها جميعا، قرأت منذ بضع سنوات، مقالة في فلسفة الأخلاق، طرح فيها كاتبها سؤالا طريفا يبعث على التفكير، والسؤال يكاد يفرض نفسه على العقل في هذا العصر فرضا. فالعجيب هو ألا نلتفت إلى المشكلة التي يثيرها، حتى ينبهنا إليها كاتب كالذي نشر المقالة المذكورة، وقد قصر ذلك الكاتب بحثه على جانب واحد من الموضوع، لكن قارئه سرعان ما يجد مجال التفكير قد اتسع حتى شمل جوانب أخرى كثيرة في حياة الناس العملية والنظرية على حد سواء.
والسؤال المحدد الذي ألقاه على نفسه وعلينا صاحب المقالة، هو عن مدى التبعية الأخلاقية التي يتحملها إنسان على أفعاله، إذا كان ذلك الإنسان قد تعرض للعملية التي يطلقون عليها اسم «غسل المخ» على أيدي أعدائه وهو أسير؛ و«المخ المغسول» - كما هو معلوم لنا - عبارة يشار بها إلى الحالة العقلية والوجدانية والإرادية، التي تبث في الإنسان بوسائل علمية، لتحل محل ما قد كان قائما عنده من قبل، فهذا الذي كان قائما يمحى و«يغسل» فيصبح كأن لم يكن؟ فإذا كان الفرد المعين يفكر على نحو ما تربى في بيئته وأمته الأصلية، وإذا كان ذا مشاعر خاصة نحو أشياء بعينها، بحيث يؤدي به ذلك كله إلى أن يسلك في حياته سلوكا ذا صورة معينة، جاءت عملية «الغسل» فغيرت له هذا كله، لنضع مكانه أي شيء آخر يريد صاحب الشأن أن يضعه؟ ويخرج المسكين - دون أن يدري - وإذا هو قد اتخذ لنفسه «وجهة نظر» أخرى، فتكونت له - بالتالي - أفكار أخرى ومشاعر أخرى، فيحب ما كان يكرهه قبل الغسل، ويكره ما كان يحبه، فإذا كان مواطنا أمريكيا - مثلا - وشارك في حرب فيتنام، على عقيدة بأنه بجنه إنما ذهب ليحارب باطلا، ثم وقع أسيرا وتعرض لغسل المخ بالطرق العلمية، انتهى به الأمر إلى يقين آخر فيما يختص بالحق والباطل، وإنما ضربت هذا المثل لأنه مأخوذ من الواقع الفعلي، فكثيرون هم أولئك الذين قرأنا عنهم وعما قالوه بعد عودتهم إلى وطنهم الأمريكي من حرب فيتنام وما أصابهم فيها من أسر، وكيف تغير إطارهم الفكري والشعوري كله، نتيجة مباشرة لما أجري عليهم من عمليات سيكولوجية.
والسؤال الذي طرحه الباحث في مقالته المذكورة، هو - كما أشرنا - على أي أساس تقام التبعة الأخلاقية، إذا كان الإنسان قد أصبح في حالة تجعله يريد إرادة غيره، إذ هو يريد ما أراد له غيره أن يريده، فيفعل الفعل، ظانا أنه حر الاختيار لما يفعله، مع أنه في حقيقة أمره ، يفعل ما أريد له، ثم استطرد الباحث ليشمل بحديثه حالات التنويم المغناطيسي كذلك؛ إذ المنوم بهذه الطريقة، يؤمر بفعل أشياء، فينفذها وكأنما هو ينفذ ما أراده لنفسه، إلى أن تزول عنه آثار التنويم فيعود إلى وعيه. وخلاصة القول، فإن ذلك الكاتب - وهو مشتغل بفلسفة الأخلاق - يسأل: هل يعد الفاعل في هذه الحالات مسئولا عما يفعل؟ وصحيح أنه مع التقدم الذي حققه علم النفس في العصر الحديث، أصبح في حدود المستطاع بدرجة أكبر جدا مما كان في مقدور الإنسان قبل ذلك، أن يشكل سلوك من أراد تشكيل سلوكه، وعلى الصورة التي يريدها له، والتجارب على الحيوان في هذا المجال كثيرة وناجحة، ويكفي أن نذكر في هذا الصدد ما يستطيعه مدرب الحيوان في «السيرك»، فلا الأسد يصبح بين يديه أسدا، ولا الفيل يظل فيلا، بل كل يفعل ما رسم له المدرب أن يفعله.
على أن قارئ ذلك المقال، لا يكاد يفرغ من قراءته حتى تنفسح أمامه آفاق السؤال، إلى الحد الذي يتعجب معه من ذلك الباحث أن يقصر الحديث على المخ المغسول في ظروف سياسية أو عسكرية، مما يتكرر حدوثه في عصرنا؛ إذ ماذا تكون الثقافة الخاصة بأي شعب من الشعوب، إذا لم تكن ضربا من صب النشء في قالب فكري وشعوري وإرادي، يضمن لذلك النشء أن يشبوا على غرار آبائهم، فيتجانسون معهم فكرا وشعورا وسلوكا؟ حتى ليعد الخارج على النمط المألوف الموروث «منحرفا» يستحق العقاب والتقويم، فإذا ما بلغت «التربية» بناشئ حد كمالها، رأيته يفكر كما يفكر الآخرون، ويشعر كما يشعر الآخرون، ويسلك كما يسلك الآخرون، وهو في كل ذلك يظن أنه حر الإرادة يختار لنفسه بنفسه فكره ووجدانه وسلوكه، مما يذكرنا بما قاله «اسبينوزا» عن الحجر الملقى، لو كان ذا شعور ونطق، لقال إنه قد سار في مساره، وسقط على الأرض حيث سقط، بحر إرادته وبمحض اختياره، ولو عرف حقيقة أمره لعرف أن اليد التي قذفت به، هي التي رسمت له مساره وبقوة الدفع التي لا بد معها أن يسقط حيث سقط .
وإذا كانت الثقافة الإقليمية في مجموعها، تكون غلافا يحيط بعقل الإنسان ووجدانه وإرادته، ليحميها من المؤثرات الخارجية التي قد تفتتها فتمحو معالمها، ولكنه في الوقت نفسه غلاف يقيد حركتها ويكتم أنفاسها، فيحرم الإنسان الحبيس انطلاقة الإدراك وحرية الإرادة، أقول إنه إذا كانت الثقافة الإقليمية تصنع ذلك الصنيع في أبنائها، فإن خطورة الانغلاق تزداد فداحة، حين يحتفر الإنسان لنفسه داخل ذلك المعتقل الثقافي جحرا يلوذ به، فعندئذ تزداد الظلمة ظلاما، ويزداد الغطاء كثافة، فيحجب عنه كل قبس من ضياء! فيعيش الحبيس في أوهام كهفه وهو يظن أنه إنما يواجه الحق الذي لا ريب فيه، فالطريقة التي يربى بها الناشئ، والأشياء التي يعاقب عليها أو يثاب، والمقارنات والمفاضلات التي تجري أمامه، والتي تجعل شيئا أفضل من شيء - وفكرة أصح من فكرة وعقيدة أصدق من عقيدة - وهكذا، تنتهي بذلك الناشئ إلى «وجهة نظر» على أساسها يصدر بعد ذلك أحكامه، بحيث يصعب جدا أن تقنعه بأن ما عنده إنما هو «وجهة نظر» نشأ عليها، وكان يمكن أن ينشأ في ظروف أخرى فتتكون له «وجهة نظر» أخرى.
الإنسان هو حصيلة ما يراه ويسمعه ممن يحيطون به، وذلك هو ما جعل ديكارت يتساءل - عندما أراد أن يكون على يقين من صحة المعرفة التي جمعها على مدار أيامه - يتساءل: من ذا أدراني بأن المعرفة التي جمعتها معرفة صحيحة؟ إن مقدارا كبيرا منها قد جمعته حين كنت لا أملك القدرة الناقدة التي أمحص بها تلك المعرفة كلما تلقيت شيئا منها، ومن هنا أخذ يفرغ رأسه من كل ما يحتويه، باحثا عن ركيزة يقينية يستند إليها فيما يعود إلى قبوله أو إلى رفضه من تلك المعرفة التي جعلها موضع شك حتى يثبت له صوابها على أساس مكين، وكان الإمام الغزالي قبل ذلك بخمسة قرون، قد وقف من علمه وقفة شاكة شبيهة بوقفة ديكارت، باحثا - هو كذلك - عن ركيزة يستند إليها في يقينه بما يعود فيوقن به، وكلا الرجلين بحث عن الركيزة المنشودة داخل نفسه، أي فيما يدركه إدراكا مباشرا غير قائم على برهان، إذا ما استبطن شعوره من داخل، وكان الفرق بينهما هو أنه بينما رأى ديكارت ركيزته في أنه «يفكر»، فقال مبدأه المشهور: «أنا أفكر فأنا موجود.» رأى الغزالي ركيزته في أنه «يريد»، فإذا جاز لنا أن نصوغ مبدأه في عبارة ديكارتية، كان ذلك المبدأ هو: «أنا أريد فأنا موجود.»
ولماذا أقول هذا؟ أقوله ليزداد القارئ إيمانا بما نزعمه له، وهو أن الإنسان إذا ما ترك نفسه للمعرفة التي حصلها إبان طفولته وصباه وما بعدهما، دون أن يراجع تلك المعرفة مراجعة نقدية تميز له ما كان صوابا فيها وما كان باطلا، أصبح وكأنه يقضي حياته في كهف مغلق معتم معزول، أقامه له من تولوا تزويده بتلك المعرفة على امتداد حياته، ثم تركوه حبيس ظنونه، التي قد يصدق منها ما يصدق ويكذب ما يكذب. وكما طرح الباحث الذي أشرنا إليه في أول حديثنا هذا، سؤاله عن مدى التبعية الأخلاقية التي تقع على صاحب «المخ المغسول»، فالسؤال نفسه يجوز طرحه بالنسبة إلى ما يفعله الإنسان مدفوعا بما لقنوه إياه منذ أخذ يلثغ بالتحدث مع ذويه ومن يحيطون به جميعا.
وكان الإمام الغزالي، ثم كان الفيلسوف ديكارت، على حق حين أراد كل منهما أن يحذر الناس من عدم التفرقة بين ما هو معرفة ظنية تحتمل الخطأ، ومعرفة أخرى أقيمت على منهج يؤدي بصاحبه إلى معرفة صحيحة لا يأتيها شك من أي جهة من جهاتها، وحتى إذا كان المنهج الذي يطالبان به عسير المنال في أغلب الأحيان، لأنه إذا تيسر تحقيقه في المجال العلمي، فليس هو بذلك اليسر في المجالات الأخرى التي يكتفى فيها عادة بدرجة من الدقة أقل، أقول إنه حتى إذا كان ذلك المنهج عسير المنال بكل دقته فلنقنع منه بما استطعناه، كما فعل الدكتور طه حسين في كتابه عن الأدب الجاهلي، حين رسم لنفسه طريقا يعالج به موضوعه، منتهجا منهج ديكارت، وهو أن يبدأ بالشك فيما يعرفه، والذي يعرفه في تلك الحالة هو أن شعراء الجاهلية الذين روى عنهم التاريخ - كامرئ القيس مثلا - كان لهم وجود فعلي في الفترة التاريخية التي نسبوا إليها، فبدأ الباحث بالشك في هذه الحقيقة حتى يثبت صدقها على المنهج الذي فصله ديكارت، فهو إن لم يكن قد استطاع تطبيق المنهج بحذافيره، بادئا من حقائق أولية تدرك في باطن النفس إدراكا مباشرا؛ لأن طبيعة الموضوع الذي يبحثه لا يتيسر لها أن تنصاع لتلك الخطوات، فلا أقل من أن يأخذ من المنهج كل ما استطاع أخذه من الحرص والحذر. «غسل المخ» - إذن - اسم جديد لحقيقة قائمة منذ أن أقام الإنسان نظمه الاجتماعية، فانخراط الفرد في جماعة ليكون عضوا فيها، يستلزم أن يعد بالتربية إعدادا يتنازل به عن كثير من مقوماته الشخصية الخاصة لكي يتجانس مع الآخرين في عرف مشترك، فكل فرد - آخر الأمر - هو بمثابة من ألبسوه منظارا ملونا باللون الذي تقرره الجماعة، لم يسع حامله إلا أن يرى الأشياء زرقاء أو خضراء أو ما كان من لون المنظار، والمثل الأعلى في مجتمع ما، هو أن يتجانس لون المناظير عند الأفراد، لكنه كثيرا ما يحدث لمجتمع معين أن ينقسم على نفسه في الرؤية العامة، نتيجة لانقسامه في الثقافات التي يتشربها، وذلك هو ما حدث لنا في مصر - وفي الوطن العربي بصفة عامة - حين اصطدمنا حضاريا بحضارة الغرب التي هي حضارة العصر، فعندئذ تشعبنا شعبا تبعا للدرجة التي أتيح بها لكل فرد أن يغترف من حضارة الغرب الجديدة، فأصبح منا من كاد يتحول كله تحولا يجعله غريبا خالصا في رؤيته، ومنا في الطرف الآخر من كاد ألا يذوق قطرة واحدة من إناء الغرب، وبين الطرفين تدرجت الظلال، على أنه كان من الممكن - إلى عهد قريب - أن نرى حياتنا الفكرية والثقافية في مصر، وكأنها قد شطرتنا شعبتين، لكل منهما رؤية شديدة الاختلاف مع رؤية الشعبة الأخرى، فإحداهما سلفية تقيس الحاضر بمقاييس الماضي، والأخرى عصرية مستقبلية تجعل حضارة العصر وأسس ثقافته معيارا لها، لكن ذلك الانقسام قد أخذ - والحمد لله - يضيق انفراجه، منذ أخذت جامعة الأزهر وضعها الجديد من جهة، وازدادت عناية الجامعات الأخرى بالتراث من جهة أخرى، وإذا قلنا هذا كنا كمن يقول إننا قد اتجهنا نحو أن تكون مناظيرنا موحدة اللون، لكن «اللون» ما زال قائما بطبيعة الحال، يجعل لنا رؤية تختلف كثيرا أو قليلا عن رؤية الأوروبي أو الأمريكي - مثلا - اختلافها عن الروسي والياباني كذلك، وبقدر ما تكونت مناظير الناس بحكم النشأة والتربية وظروف البيئة، يكون القيد الذي يحد من حرية الفكر والشعور والإرادة.
Неизвестная страница