الوقفة الصحيحة التي ننادي بها، ليست رفضا للعصر وحضارته، على زعم أنه عصر الفوضى الخلقية التي تتنافى مع تراثنا وتقاليدنا، بل هي وقفة نقبل فيها حضارة العصر بكل مقوماته الأساسية ثم نحاول أن نضيف إليه من تراثنا وتقاليدنا بعدا إنسانيا خلقيا يكمل وجه النقص فيه، فليس الرأي الصواب فيما بيننا وبين الغرب مبدع الحضارة القائمة، هو أن نقول إما نحن وإما هم، بل الرأي الصواب هو أن نخلق صيغة حياتية جديدة تشمل مقومات حضارتهم من علوم وصناعات ومنهج وفنون وطائفة صالحة من النظم السياسية والاجتماعية، كما تشمل في الوقت نفسه مقوماتنا الخلقية وغيرها مما يشكل وجهة النظر وفلسفة الحياة. لا ليس الصواب هو: إما نحن وإما هم، بل الصواب هو: نحن وهم في صيغة واحدة، بها لهما من الخطأ أن نشير إلى مبدعي الحضارة الجديدة بضمير الغائب «هم»، والصحيح هو أن نستخدم ضمير المتكلم الجمع «نحن»، وفي نحن هذه نضع كل ما يسلكنا في الحياة الحضارية بالصورة التي ترضينا، وإلا كنا كمن يحكم مسبقا علينا بالعقم الذي لا يرجى منه مشاركة في إنتاج علمي وفني وتكنولوجي نشارك به في إقامة البناء.
البديهية التي يفوتنا إدراكها هي أنه كان من الممكن أن يكون السلطان والتقدم والازدهار ما يزال معقودا للمسلمين وفي تلك الحالة الافتراضية كان هذا العلم كله والتقنيات كلها والفنون كلها، ليكون من إبداع مسلمين. فليس في إسلام المسلم ما يمنعه من أن يكون هو الذي كشف عن أسس العلم الجديد ونهض بالصناعات الجديدة وصعد إلى القمر، وأنشأ كل ما يتميز به العصر من سمات؛ أقول ليس في إسلام المسلم ما يمنع هذا، سوى ما أصاب المسلمين من ضعف وتخلف حضاري تبعه ضعف وتخلف اقتصادي وسياسي حتى أصبح نهبا مباحا لكل من أراد أن يغزو ويسيطر. إن أولئك الذي يهاجمون أسس الحضارة العصرية يوحون للناس بأن مبادئ الإسلام وتلك الأسس نقيضان لا يجتمعان ، ومن هنا تشيع فينا دعوى أننا روحانيون على سبيل الدفاع عن النفس في عجزها وقصورها.
لكن الروحانية بالمعنى الذي حددناه لها، والذي يجعلها متمثلة في العبادات أولا ثم متمثلة في القيم الخلقية التي تسري في دنيا العلم والعمل لا تتناقض مع أن يكون الروحاني عالما في ميادين العلم الطبيعي بكل فروعه ولا يتناقض مع أن يكون الروحاني هو الذي ابتكر الحاسبات الإلكترونية وغيرها، بل العكس هو الصحيح؛ لأن الكشف عن أسرار خلق الله من شأنه أن يزيد الروحاني روحانية أي - والمعنى واحد - أن يزيد العابد إخلاصا في عبادته لله عز وجل، كما يجعل ذلك العابد نفسه ينقل الأسس الخلقية من ساعات العبادة ليقيمها كذلك في ساعات العلم والعمل.
ولقد بدأت لك الحديث بعنوان جاء في صيغة سؤال: روحانيون نحن؟ وبأي معنى؟ والآن أترك لك أنت أن تجيب.
عصر الضمير الغائب
لست في الحق أدري، أكان هو «الوعي» الذي غاب عن الناس ثم عاد إليهم أو لم يعد، أم هو «الضمير» الذي طمس ليختفي ولو إلى حين؟ أم أنهما - الوعي والضمير معا - يطفوان على سطح حياتنا حينا، أحدهما أو كلاهما، ثم يتواريان حينا آخر، أحدهما أو كلاهما؟ هذه الاحتمالات كلها ممكنة الحدوث! أي إنها قد تكون صحيحة ومتحققة، وقد لا تكون، إلا احتمالا واحدا منها، وهو أن تكون ضمائر الناس في أرجاء العالم، ومصير جزء من العالم، مستيقظة لما يقولونه ويفعلونه؟ مما ترى جزءا منه منشورا في الصحف وغير الصحف، وأما التسعة والتسعون جزءا الباقية من المائة، فيدخرونها ليجعلوها موضوعات لأسمارهم كلما اجتمعوا يسمرون.
وقبل أن أمضي في الحديث، قد يكون من المفيد لنا، أن نقف وقفة قصيرة شارحة، نبين بها ما نراه فرقا بين «الوعي» من جهة و«الضمير» من جهة أخرى، فأما «الوعي» فهو إدراكنا لما حولنا، فوعيك قائم في يقظتك، غائب في نعاسك، أو ما يشبه تلك الحالة غيبوبة الإغماء أو التخدير، وإن الوعي ليغيب بدرجات تتفاوت عمقا، لكنه لا ينعدم إلا مع الموت، وأما «الضمير » فشيء آخر ، فليس كل ذي وعي ذا ضمير حي بالضرورة، واسمه وحده يدل على شيء من خصائصه، فهو دائما «مضمر» في صاحبه، كما تضمر تروس الساعة في غلافها، بحيث تحرك العقارب لنراها في مواضعها من وجه الساعة، أما هي فتظل في مخبئها، ولست في حاجة إلى القول بأنني قد أردت بهذا التشبيه أن أقول إن الضمير مؤلف من قطع معدنية - أو غير معدنية - ركب بعضها مع بعض، وحفظت في ركن معين معلوم من الجسم، كلا، بل الأمر في بساطة، هو أن أولئك الذين يتولون عملية التربية للإنسان، طفلا وصبيا وشابا، إنما يبثون فيه يوما بعد يوم أن الفعل الفلاني جائز وأما الفعل الفلاني فلا يجوز، وهكذا حتى ينشأ عند الفرد «ذوق» عام يستطيع به في كل موقف يعرض له، أن يحكم بما يجوز فعله وما لا يجوز، على أن هنالك من يرون بأن هذه القدرة عند الإنسان على التمييز بين الجانبين، هي جزء لا يتجزأ من فطرته، يولد بها، ثم تأخذ في الظهور كلما نما الإنسان واتسعت مداركه، وسواء أكانت المسألة مرهونة بتربية الفرد على أيدي من يتولون أمر تربيته، أم كانت فطرة مغروزة في جبلة الإنسان، فالنتيجة واحدة بالنسبة إلى ما يهمنا في هذا الحديث.
والذي يهمنا بالدرجة الأولى هنا هو أن الإنسان ينطوي في دخيلة نفسه على «دفة» كدفة السفينة توجهها، أو قل إنه ينطوي على «رقيب» يجيز لصاحبه شيئا ولا يجيز له شيئا آخر، لكنه رقيب - لسوء حظ الإنسان - يشبه مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة، ليس لديه قوة التنفيذ، فهو قد يقرر بأن فعلا معينا من دولة معينة، غير مشروع لها، ولا هو مقبول من سائر الدول، فلا تأبه الدولة المعنية بالقرار، ويكتفي مجلس الأمن عندئذ بالأسف، وهكذا يكون الضمير مع صاحبه، فهو يقرر له متى يصح الفعل ومتى يبطل، فإما اهتدى صاحبه بهدي ضميره، وإما رفض أن يهتدي فيحيا وكأنه بلا ضمير، أو كأن ذلك الضمير قد غاب عن صاحبه إلى حين، لا يدري كم يقصر أو يطول.
وأتحدث هنا عن العالم في مجموعه، ومصر جزء منه، فأقول إنه يجتاز مرحلة لعلها حتمت بالضرورة أن يغيب عنه ضميره، أو أن هذا الضمير هناك، يأمر بالقبول وبالرفض، لكن أوامره تذهب مع الريح إلى حيث لا يدري، وأرى أن بلادنا قد شاركت سائر الدنيا في كثير من غيبة الضمير، أو من وجوده وجودا أشل، حتى ليخيل إلي أننا إذا أردنا أن نصف عصرنا هذا بصفاته المميزة، لوجدنا قائمة طويلة من تلك الصفات، فهو عصر العلم الذي تصحبه تقنيات، وهو عصر الفضاء وغزوه، وهو عصر الحرية لشعوب كثيرة كانت مقيدة بقيد المستعمرين، وهو عصر كذا وعصر كيت، ثم هو عصر الضمير الغائب، ومن ثم فقد انطلقت الشياطين من قماقمها، ففي كل يوم ألف من حوادث العنف، الذي يخطف الطائرات براكبيها، ويمسك بالرهائن الأبرياء، ويلقي في الطريق بقنابل لا يعرف من الذين سيلقون بها حتفهم، إلى آخر ما أعرفه وما لست أعرفه من أعمال العنف، إن كانت لها آخر، ولا عجب أن يكون هذا العصر كذلك عصرا للخوف والقلق، والاغتراب وما يدور هذا المدار.
ولكن هذا العصر بكل ما فيه هو عصرنا الذي نعيش فيه، قد تعرض لما تعرض له بسبب كونه عصرا انتقاليا بين حضارتين، إحداهما سادت إلى أوائل هذا القرن العشرين، والأخرى قد يرجى لها أن تسود في القرن الحادي والعشرين، وعصور الانتقال الحضاري تشبه إلى حد ما فترة المراهقة في حياة الفرد الواحد، إذ هي فترة تنقل صاحبها من الصبا إلى الشباب، فلا هو صبي مع الصبيان يلهو كما يلهون، ولا هو شاب نضج واكتمل، يعمل في ميادين الإنتاج كما يعمل الشباب، ومن هذه الطبيعة الانتقالية لتلك المرحلة، يتعذر جدا أن يحدد المراهق معالم ذاته، بل ويتعذر ذلك التحديد على من يتولونه بالرعاية، وذلك لأنه - بالفعل - يجتاز مرحلة يبحث فيها عن ذاته، أي إنه يبحث فيها عن خصائص - يختص بها - تتفق مع قدراته وميوله من جهة ويتميز بها عن سائر الناس من جهة أخرى، ومثل تلك المرحلة الرجراجة المتميعة التي لم يتبلور لها شكل بعد، ولا ظهر لها لون، نرى المرحلة الراهنة التي تجتازها شعوب الأرض جميعا، في انتقالها من حضارة كانت، إلى حضارة أخرى بدأت بشائرها ولم تكتمل بعد ظهورا.
Неизвестная страница