بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
تقديم الكتاب
ثلاثمائة مليون من المسلمين أو يزيدون تهفو قلوبهم جميعا إلى منزل الوحي، ويهزهم الحنين إليه، يولون وجوههم شطره خمس مرات كل يوم أينما أقاموا الصلاة، وإلى البيت العتيق تهوي أفئدتهم رغبة في أداء فريضة الحج، وإلى قبر الرسول النبي العربي يحثهم الشوق ابتغاء زيارته، ومنهم من يود لو يقف عند كل مكان وقف فيه الرسول ليتمتع ما وسعه المتاع بما توحيه هذه المواقف من جلال روحي خلقي وإنساني يأخذ بمجامع النفس، ومنهم من يدعوه تطلعه العلمي إلى البحث عن أسرار هذه البيئة العربية التي اختارها القدر، فجعل منها منزل الوحي بالتوحيد إلى محمد عبد الله ورسوله في أكثر صور التوحيد سموا وصفاء: ماذا كانت قبل الرسالة؟ وكيف كانت حياة الرسول؟ وإلام صارت على توالي العصور؟
بلاد ذلك مبلغها من عناية العالم بها جديرة بأن تتعلق بها أفئدة الكتاب والشعراء والمؤرخين والعلماء، تتلمس أسرارها وتستلهم من روحها، وهي لا ريب قد استوقفت منهم كثيرين من أهل الأمم المختلفة، بل لقد استوقفت كثيرين من غير المسلمين في مختلف العصور وفي عصرنا الحاضر، على أن ما تحتفظ به من تراث دائم الجدة، بالغ غاية الدقة في تشعبه خلال التاريخ واتصاله بأرجاء العالم المختلفة، قد حال بين طائفة من الأدباء والشعراء والباحثين وبين التنقيب في كنوز هذا التراث، وذلك لما لها في نفوس الباحثين المسلمين من قداسة روحية تصدهم عن الغوص فيها إلى غاية أعماقها، ولما يغيب من أسرارها عن غير المسلمين بسبب هذه القداسة الروحية ذاتها، هذا إلى أن ما صارت إليه بلاد العرب منذ قرون طويلة من تأخير واضمحلال قد لوى الكثيرين عنها، ومال بهم عن التفكير في أمرها، شأن الناس إذ يرغبون عن كل ما انطفأ بريقه، وإن حوى في طياته أثمن النفائس؛ ومن ثم قل ما كتب عن بلاد النبي العربي في القرون الأخيرة مما له قيمة علمية تكشف الغطاء عن حقيقة هذه البلاد واختبار القدر إياها للوحي والرسالة على نحو يقنع تفكير هذا العصر، وكان ما كتبه العلماء الأجانب بعيدا عن تناول الظاهرة الروحية التي تغير لها وجه التاريخ منذ أربعة عشر قرنا، والتي ستظل عاملا خالد الأثر في حياة العالم ما كان للقوة الروحية في توجيه العالم أثر وسلطان.
ولقد حرصت على أن أقف ما استطعت عند البحوث التي تناولت بلاد العرب من هذه الناحية، منذ بدأت أكتب السيرة وأنشرها تباعا في فصول كتابي «حياة محمد»، ولقد وفقت لبعض ما أردت في الكتب العربية التي كتبت في العصور الإسلامية الأولى، وفيما كتب بالعربية من بحوث في هذه العصور الأخيرة، كما وفقت لناحية أخرى منه فيما كتبه علماء الغرب ورجال الرحلات فيه، لكنني شعرت آخر الأمر بأنني سأظل ينقصني جوهر ما أبحث عنه إذا أنا لم أذهب إلى بلاد النبي العربي بنفسي، ولم أقف حيث وقف في أدق ما مر به أثناء حياته، ولم أمهد لذلك بأن أحيط - في حدود الطاقة - بالبيئة العامة التي نشأ فيها، وإنما كنت أفكر في هذا لأتم به بحوثي في السيرة، فأما أن أجعله موضوع كتاب مستقل فذلك ما لم يدر بخلدي بادئ الرأي، فلما ذهبت إلى الحجاز وتجولت فيه تبينت أن ما قمت به من بحوث يتعدى السيرة إلى عصرنا الحاضر؛ لذلك رأيت من الخير أن أطالع القراء بكتاب مستقل يتناول ما رأيت، ويتناول ما أحسست به حين كررت بالزمن راجعا إلى عهد الرسول، وما كان بعد ذلك من حياة المسلمين في عهدهم الأول، ثم ما أصاب البلاد الإسلامية المقدسة بعد ذلك إلى وقتنا الحاضر، مع الإشارة الموجزة إلى ما أرجو أن يكون القدر قد خطه في لوحه لهذه البلاد العربية يوم ينصر الله دينه على الدين كله.
وهذه الإشارة الوجيزة التي يجدها القارئ في بعض فصول الكتاب هي مع ذلك أول ما تحركت له نفسي منذ فكرت في الرحلة إلى الحجاز حتى استقر بي العزم عليها، من يومئذ جعلت أسأل الذين سبقوني إلى الحج عن الحال في بلاد العرب، وعما يروى من الأنباء عن الوهابيين فيها، وعن مذهب ابن عبد الوهاب وما ينطوي عليه، أبتغي بذلك التهيؤ للبحث فيما يستطاع عمله لخير هذه البلاد العربية ولخير المسلمين الذين ينزلونها، وإنما عالجت هذا البحث لما أعرفه من أثر الفوارق المذهبية بين أهل الدين الواحد في مختلف البلاد والأديان والعصور، أفيبلغ الاختلاف بين الوهابيين وغيرهم من المسلمين مبلغا يجعل العمل المشترك والتعاون عليه أمرا غير مستطاع؟ أم أن جوهر العقيدة الإسلامية في هذا المذهب كجوهرها في سائر المذاهب الإسلامية واحد لا يتغير:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ؟ أما الجوهر في المذاهب الإسلامية جميعا فهو التوحيد، أما وكتاب الله هو كتاب المسلمين جميعا، فالرجاء عظيم في تعاون المسلمين على إصلاح ما يتصل بشعائرهم وعقائدهم في بلاد البيت العتيق والقبر النبوي، وفي متابعة هذا التعاون على الزمن حتى يقضي الله بأمره، ويتم على الناس نوره.
وقد استغرق التفكير في هذا الأمر كل انتباهي منذ بدأت رحلتي؛ جعلت أفكر فيه حين ركبت الباخرة، وحين نزلت جدة، وأثناء الطواف والسعي بالعمرة بمكة، وعندما ذهبت أتم فرض الحج في عرفات وأختم شعائره في منى، ولم أعجب حين رأيت الكثيرين من زملائي في الحج يشاركونني في هذا التفكير، فقد رأوا جميعا حاجة مناسك المسلمين إلى الإصلاح، فتحركت لذلك نفوسهم وعقدوا الاجتماعات يلتمسون وجوه الرأي فيه، أما أنا فقد وضعت مقترحات لبعض ما رأيت من الإصلاح ودفعت بها إلى رجال الحكومة العربية، ولعل من بين الذين سبقوني إلى الحج من صنع صنيعي راجيا ما أرجو أن يوفق الله المسلمين لغاية الخير.
على أنني لم أتبسط أثناء هذا الكتاب في بيان ما رأيت وما أرى الآن من وجوه الإصلاح؛ لأنني لم أجعل هذا الغرض غايتي الأولى من وضعه؛ ولأن شئون الإصلاح تتطور في تصويرها تبعا لما تقضي به حاجات العصر، ونحن في زمن تسرع فيه الأشياء إلى التحول، حتى لترى ما كان صالحا أمس قد أصبح اليوم عتيقا، إن حدث بعده ما هو خير منه وأدنى إلى الفائدة، لكني تبسطت في بعض فصول الكتاب في نقد ما رأيته موجبا للنقد من أحوال بلاد العرب الاجتماعية، وفي بيان الأسباب التي أدت إلى تدهور البلاد العربية والإسلامية؛ لاقتناعي بأن النقد فاتحة الإصلاح، وبأن تحري الأسرار التي أدت إلى الضعف تشخيص للمرض يسهل معه وصف علاجه.
ومع وقوفي في موقف الناقد من بعض الشئون الحاضرة في البلاد المقدسة، لقد وجهت أكبر عناية إلى آثار الرسول الكريم فيها، وجعلت جل همي أن أسير حيث سار ؛ ألتمس ما في حياته من أسوة وعبرة، وأرجو أن أقف على شيء من السر الذي هيأ هذه البلاد لتكون منزل الوحي إلى النبي العربي خاتم الأنبياء والمرسلين.
Неизвестная страница