أما الذكريات الدينية المتصلة بالتنعيم فأشهرها عمرة عائشة أم المؤمنين، روي عن النبي أنه قال لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: «أردف أختك عائشة - فأعمرها من التنعيم، فإذا هبطت بها الأكمة فمرها فلتحرم فإنها عمرة متقبلة»، وفعل عبد الرحمن، وأحرمت عائشة من التنعيم وطافت وسعت بعمرة، وقد بني مسجد هناك باسم مسجد عائشة، ذكر صاحب مرآة الحرمين أن آخر من جدده السلطان محمود في سنة 1011ه، وخلف المسجد حوض لخزن المياه، وصهريج كبير قديم كان يمتلئ من السيول ويتوضأ منه المعتمرون، ثم تخرب فأصلحه الوزير سنان باشا في سنة 978ه، وأصلح بئرا قريبة منه وأقام عليها ساقية، لكن الصهريج والبئر أهملا وعفت عليهما يد الزمن.
ولما بنى عبد الله بن الزبير الكعبة بعد مهاجمة الحصين بن نمير قائد يزيد بن معاوية إياه وتوهينه البيت، خرج مع أهل مكة في ليلة الإسراء في السابع والعشرين من شهر رجب لسنة أربع وستين من الهجرة، فأحرموا من التنعيم وذبح مائة بدنة، وذبح كل واحد على قدر سعته، وقد بقيت هذه عادة أهل مكة إلى اليوم.
والمقيم بمكة إذا فرض الحج أحرم من بيته بمكة ثم صعد إلى عرفات وعاد بعد الحج فطاف وسعى، ذلك أن الحج عرفة، فالإحرام للحج إنما يكون من مكة، إلا حاج جاءها يسوق هديه معه، أما من اعتزم العمرة وهو مقيم بمكة فقد وجب عليه أن يغادر مكة إلى الحل فيحرم منه، والتنعيم أفضل أعلام الحرم بعد الجعرانة؛ ذلك أن عائشة أحرمت معتمرة من التنعيم، أما الجعرانة فقد أحرم منها رسول الله بعمرة، على ما ورد في كثير من الروايات.
ويقع التنعيم اليوم بظاهر مكة على الطريق إلى المدينة كما قدمنا، ويمتد الطريق بعد التنعيم إلى وادي فاطمة مارا بسرف حيث بنى رسول الله بميمونة بعد عمرة القضاء، وتذهب أنباء السلف إلى أن قرية تدعى يأجج كانت قائمة عند التنعيم، كما أن سرف كانت قرية كذلك، فأما اليوم فليس عند التنعيم غير العلمين، علمي الحرم، وليس عند سرف شيء يدل عليها غير مسجد ميمونة، وأنت تسير من مكة إلى وادي فاطمة فلا تكاد ترى مظهرا لحياة فيما قبل هذا الوادي، بل تحيط بك الجبال والأودية منسابا بينها الدرب الذي تسير فيه القوافل صوب المدينة، وهذه القوافل تكثر أيام الحج كثرة تجعلك تلقاها كلما خرجت إلى هذا الطريق.
ويذهب أهل مكة إلى التنعيم كما يذهبون إلى الشهداء والزاهر للرياضة، والطريق إليها ميسور في السيارة، ولقد ذهبت إليها غير مرة أستمتع بهواء الصحراء الصفو ساعة المغيب، كما ذهبت بعدها إلى سرف وإلى وادي فاطمة، فرأيت من حياة الصحراء ومن حياة البادية غير ما رأيت من حياة الصحراء في مصر، وما كان مقدمة لما رأيت من حياة البادية بالطائف وفيما حول المدينة، وقد كشفت لي حياة البادية هذه من وحيها لشعراء العرب في الماضي ما لم تكشف الكتب التي درست فيها الأدب العربي، فبدت لي معانيه في وضوح شعرت به مذ رأيت حياة البادية بعيني وأحسستها بجوارحي إحساس بدوي يسير مع أهل الحجاز ويعيش عيشهم، ولقد آمنت بعد الذي رأيت من ذلك بأن الشعر ثمرة بيئته حقا، وأن الفن والأدب هما أصدق صورة للبيئة التي ينشأان فيها.
لي بمصر صديق مدله بالأدب شديد الإعجاب بأبي نواس كثير الترديد لبيت له يتهكم فيه بشعراء العرب الأولين، ذلك قول ابن هانئ:
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا، ما ضر لو كان جلس؟!
وكنت أشارك صديقي في الإعجاب بهذا البيت وبدقة النكتة وبالتهكم اللاذع فيه، فلما خرجت إلى التنعيم ثم إلى سرف وإلى وادي فاطمة ورأيت القوافل متجهة صوب المدينة ورأيت إبلا تنقطع عن القافلة وتسير فرادى وعلى هون، ذكرت هذا البيت من شعر أبي نواس فلم يثر مني إعجابا ولا طربا، بل سخرت منه ومن أبي نواس، فهذه البادية المترامية الأطراف يرتحل أهلها البدو من مكان إلى مكان، يضربون خيامهم إذا نزلوا، فإذا ارتحلوا درس رسمهم، ليس فيها معنى أبعث للتشوق وللحنين من هذه الرسوم الدوارس، كانت إلى أمس عامرة بمن جاء إليهم هذا السائر على بعيره يحث مطيته من بعيد وقد براه الشوق إلى محبوبته، وها هو ذا يراها اليوم خلاء تحمل أهلها ولم يتركوا بعدهم أثرا، ماذا تراه يصنع وقد ذهب أمله في لقاء المحبوب هباء؟ أفيجلس ليبكي؟ أم هو يقف ساعة ثم يستحث بعيره قافيا أثر هؤلاء الذين جاء في طلبهم، وليس أمامه في هذه الساعة التي يقف فيها من يتحدث إليه أو من يسائله إلا هذا الرسم الدارس يبث له شوقه ويعلن إلى صمت البادية عنده وجده؟! وهو فيما يفعله من ذلك صادق العاطفة بليغ التعبير عنها.
من عيون قصائد الشاعر الفرنسي «لامارتين» قصيدة البحيرة، وأبدع ما في هذه القصيدة تحنان الشاعر لأيام كانت تجيء فيها محبوبته إلى شواطئ هذه البحيرة، بحيرة ليمان، فتقف معه عندها، ويستلهمان معا وحيها، وتوحي إليه هي مزيدا من المتاع بجمالها، والبادية والرسم الدارس فيها، والحنين إلى من تركوا وراءهم هذا الرسم حين ارتحلوا، والشدو بما خلفوا وراءهم في قلب المحب من لوعة، لا يقل في بهاء روعته الشعرية عن البحيرة وموجها والجبال المحيطة بها والسماء المطلة عليها، فإذا تحدث بعد ذلك عن هذه الرسوم الدوارس من لم يشهدها، بل تحدث عنها مقلدا، فمثله في ذلك كمثل من يتحدث عن البحيرة مقلدا «لامارتين » من غير أن يشعر بشعوره ، أما وحي البادية البديعة في صفاء جوها ورهبة صمتها وموج رملها وتتابع هضابها وجبالها، فمما يلهم الشاعر الصادق العاطفة عيون الشعر وغرر الصور والإحساس والمعاني.
Неизвестная страница